نفض «تيار المستقبل» الغبار عن أولى مفاجآته. ونفّذ بالأمس ضربته الاستباقية للانقضاض على مفتي الجمهوريّة الشيخ محمّد رشيد قباني. صحيح أن «التيار الأزرق» لم يعلن مسؤوليته عن «ضربة الاستقالات الجماعية» التي حصلت داخل «المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى» الذي يرأسه قباني، غير أن بصماته واضحة كعين الشمس، تماماً كـ«بصمة عين» فؤاد السنيورة.
يعرف الطرفان أن هدف استقالة الأعضاء: مصطفى بنبوك، هاني قباني، عمر طرباه، أمير رعد، هيثم فوال وسعد الدين عانوتي، ليس كما أكّده هؤلاء «تلافياً لما هو أسوأ وحرصاً على المصلحة العليا للطائفة السنية، وخشية وصول أكثر من مفتٍ للجمهورية اللبنانية». الجميع يعرف أن السبب ليس «طوباوياً». يقول البعض إنّ هناك ثلاثة خيارات لفهم موضوع الاستقالة في الشهر الأخير من معركة دار الإفتاء:
يعتقد المعنيون أنّ وضع الاستقالات في خانة «أجواء التسوية»، كما أكّد المدير العام للأوقاف الإسلاميّة الشيخ هشام خليفة «غير منطقي»، بالرغم من أنّ فريق قباني يجلس على الطاولة مع خصومه «المستقبليين» للتوصل إلى سلّة متكاملة للأزمة الحاصلة، ومن بينها حلّ «المجلسين الشرعيين» لانتخاب مجلس في عهد المفتي الجديد المنتخب.
والدليل على ذلك هو أنّ «الدار» لن تحلّ مجلسها أوّلاً كي يقوم أعضاء المجلس الذي يرأسه عمر مسقاوي بالاستقالة، لأن هذين الحلين يجب أن يكونا متلازمين إذا ما حصل التوافق بين الطرفين.
وإذا كان هذا الخيار مستحيلاً، فإن البعض يفسّر الاستقالات الست بأنّها تعبّر عن خشية «المستقبليين» من إمكان قيام قباني بقلب الطاولة عليهم من خلال الذهاب نحو التمديد لنفسه في ربع الساعة الأخير. في حين هناك من يؤكّد أنّ هذا الافتراض غير منطقي أيضاً، لأن المفتي يستطيع التمديد لنفسه من دون الركون إلى «المجلس الشرعي»، بعد إلغائه القرار رقم 50/1996 منذ شهر ونصف الشهر.
كيف؟ إلغاء القرار ذي الرقم 50 يعني توسيع الهيئة الناخبة وإعطاء صلاحية الدعوة لانتخابات المفتي إلى المدير العام للأوقاف بدلاً من رئيس الحكومة، وأن يكون مفتي الجمهورية مفتياً لمدى الحياة بدلاً من أن يكون لولاية تنتهي ببلوغه سن الـ72 عاماً. البند الأخير قرّر قباني أن يلغيه استثنائياً في عهده، على أن يسري على المفتين الذين سيأتون بعده. ما يشير إلى أنّ قباني يستطيع ببساطة إعادة العمل بهذا البند دون قرار من «المجلس الشرعي».
في المقابل، يعتبر المعنيون أن الخيار الأكثر منطقيّة هو أن يكون «المستقبل» قد ضغط على أعضاء «الشرعي» الـ6 لتقديم استقالاتهم، لا سيّما بعد أن قدّم أعضاء «مجلس مسقاوي» دعوى جزائيّة (في 6 تموز الماضي) أمام النيابة العامّة التمييزيّة ضدّ «منتحلي صفة أعضاء الشرعي».
هدف «التيار الأزرق» هو الإشارة إلى أنّ باستطاعته اللعب بحريّة داخل عقر دار «سماحته»، إضافةً إلى رفع سقف مطالبه في وجه تجريد قباني من «كارت رابح» لإدخاله إلى طاولة المفاوضات، التي يجريها وسيط عربي في إحدى السفارات العربيّة، كمفاوضٍ ضعيف.
إذًا، بدأ «المستقبل» بممارسة «حربه النفسية» على قباني في إطار «معركة ربح المزيد من المكتسبات». ما يعزّز هذا التوجّه هو أن «مجلس قباني» لم يفقد نصابه، بعكس ما أشيع، ولن يفقده إلا إذا قام عضو واحد بتقديم استقالته، بالرغم من استقالة 6 أعضاء أمس وعدم حضور 9 أعضاء منذ انتخابهم (المرسوم 18 ينصّ على أنّ كل عضو يتخلف عن الحضور ثلاث جلسات متتالية من دون عذر مشروع يقبله المجلس، يعتبر مستقيلاً حكماً).
وذلك يعني أن السنيورة «هزّ العصا» للتقدّم بموضوع المفاوضات، على اعتبار أن من يستطيع الضغط على 6 أعضاء، يستطيع أن يضغط على 7 ليفقد «الشرعي» نصابه ويفقد قباني «ورقة مجلسه». ومن يكون بمقدوره أن يفعلها اليوم، كان بمقدوره أن يفعلها منذ أشهر، إلا إذا كانت ورقة مخبأة تحت الطاولة إلى أن يحين «الجزء الأخير» من معركة انتخابات المفتي.
وما يعزّز صحّة هذا السيناريو هو أنّ رئاسة الحكومة لم تؤكّد ولم تنفِ ما قيل عن إنها حدّدت يوم الأحد 10 آب كموعد لإجراء الانتخابات في مواجهة دعوة خليفة في 31 آب. هذا الغموض يشي أن هذا الموعد ليس إلا «جس نبض» للأطراف الجالسة على طاولة المفاوضات. تريّث رئيس الحكومة تمّام سلام في الإعلان رسمياً عن موعد الاستحقاق يؤكّد أن رؤساء الحكومات هم أيضاً يسيرون على خطّ المفاوضات.
وما دامت خطوة الاستقالات ليست حاسمة عملياً، فإن البعض ينتظر أن تنتج تطوّرات المفاوضات المستمرة من خلف الستار مزيداً من التصعيد والاستقالات للوصول إلى «التسوية الشاملة». ولا ينفي هؤلاء أن هناك عضوين محضرين لهذا السيناريو وهما: زكريا يحي الكعكي وسعد الدين خالد. الأخير يعتبره المطلعون على الملفّ هو «العضو الملك» على اعتبار أن استقالته صارت «قاب قوسين أو أدنى»، على أن يترتّب عليها إسقاط «المجلس الشرعي» كلياً.
يشدّد سعد الدين خالد لـ«السفير» على «انني لم أطلب تعييني في المجلس ولم أترشّح، بل تمّ تعييني من قبل قباني، وكان هدفي هو لعب دور إيجابي من الداخل»، مؤكداً أنه «إذا لم ألعب هذا الدور فإنني سوف أعمد حتماً إلى تقديم استقالتي، لأنني من بيت وطني ومن بيت المفتي حسن خالد الذي كان له تاريخ كبير في التوافق وجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم».
في المقابل، يغسل المستقبليون يدهم من هذه الاحتمالات، لافتين الانتباه إلى أنّها «نهاية متوقّعة لأعضاء منتحلي صفة وغير قانونيين على أبواب انتهاء ولاية قباني».
أما «دار الفتوى»، فإنها تتحصّن بالصمت، على أن يفرغ نائب رئيس «المجلس الشرعي» ماهر صقال ما بحوزته لشرح ما حصل ويحصل في مؤتمر صحافي سيعقده ظهر اليوم في عائشة بكّار.
وبالرغم من أن بعض الأعضاء الستة المستقيلين هم أعضاء في اللجنة القضائية التي تشارك في التحضير لانتخابات المفتي، تشير مصادر دار الفتوى إلى أنّ «استقالة الأعضاء الستة، أو حتى إسقاط المجلس كلّه، لن يغيّر في الأمر شيئاً».