كأن التاريخ يعيد نفسه. فقبل احد عشر عاماً ونيف، تفاجأ العالم بالانهيار السريع لجيش صدام حسين امام القوات الاميركية الغازية، وقيل يومها ان الخيانات والرشاوى والفساد ومساوئ الحكم والحصار الخانق الذي امتد لأكثر من عقد، كانت وراء تهاوي ما كان يوماً واحداً من اقوى الجيوش العربية واكبرها عديداً واكثرها خبرة، لكن الأكيد ايضاً ان الجنود العراقيين لم يكونوا مستعدين لتكرار الهزيمة المذلة التي لحقت بهم عندما اخرجوا من الكويت، ولا ان يموتوا دفاعاً عن حكم لا يأبه كثيراً لمصيرهم، ففضلوا الانكفاء امام عدو يفوقهم قوة نارية بمئات الاضعاف ويتقدمهم تقنياً بعقود كثيرة.
غير ان الحكم الجديد في «العراق الجديد» الذي ولد من رحم الغزو الاميركي أكد ويؤكد انه ديموقراطي منتخب وليس ديكتاتورياً، ويتمتع بتأييد غالبية العراقيين وباعتراف العالم ودعمه، فلماذا اذاً انهار جيش نوري المالكي امام قوات «داعش» في الموصل ويكاد ينهار في صلاح الدين وكركوك، اذا كان أنشئ على أساس عقيدة مختلفة ويخضع لنظام سياسي مختلف؟
الجواب يكمن بالتأكيد في مفهوم المالكي للحكم وكيفية ادارة تحالفاته، وقبل كل ذلك فهمه لطبيعة التركيبة السياسية والطائفية لبلده. فهو اعتبر عندما عاد من ايران بحماية اميركية انه انتصر ليس على نظام صدام بل على السنّة العراقيين، وبدأ لذلك عملية انتقامية طويلة وثابتة قامت على تهميش «أعدائه» حتى بين الشيعة، وإبعاد بعضهم قسراً عن البلاد، وحصر السلطة به وبالمتحالفين معه، وعندما بدأ التململ لدى السنّة لم يجد سوى التنكيل رداً والسلاح وسيلة لمواجهة مطالبهم. وعندما بدأت مناطق ذات غالبية سنّية في التمرد على النظام العام، حاصرها وأبقاها تحت التهديد باجتياحها.
ثم لم يلبث ان بدأ لعبة «المتطرفين والمعتدلين»، معتبراً كل من يعارضه «ارهابياً» و «تكفيرياً»، وشجع بعض المتشددين على البروز ليبرر لجوءه الى القوة. وبعد ذلك اختار ان يسمح لهم بالسيطرة على بعض المناطق ليخير سكانها بين حكمه وتطرفهم، قائلاً لمعارضيه السياسيين ان «القاعدة» هي البديل الوحيد منه، وان عليهم ان يتحملوا «امارة اسلامية» اذا كانوا يرفضون «ديموقراطيته». ثم كرر خطأ الاميركيين الذين حلوا الجيش العراقي عندما قرر حل «الصحوات»، فوحد بذلك السنّة، معتدلين ومتطرفين، ضد نظامه.
وعندما انتشر جيشه في المناطق السنية لمواجهة «داعش» بدا كأنه قوة احتلال اكثر منه جيشاً وطنياً، ذلك ان انتشاره كان تعبيراً عن الغلبة وليس عن الحياد. وتأكد ذلك في فرار جنوده وضباطه الذين تصرفوا كأن هذه المناطق لا تعنيهم او انها ليست عراقية.
وقد لا يدوم الانتصار العسكري الذي حققه «الداعشيون» طويلاً حتى لو تقدموا نحو مناطق اخرى. وهم اعطوا مؤشراً الى عدم رغبتهم في البقاء طويلاً في المناطق التي احتلوها عندما نقلوا على الفور المعدات التي استولوا عليها من الجيش العراقي الى داخل الاراضي السورية، وتحديداً الى محافظة الرقة. لكن «الحملة المنسقة» التي دعت اليها واشنطن لمواجهتهم لا تبدو ممكنة في الواقع لأنه ليس بامكان الاميركيين التدخل المباشر سوى عبر سلاح الطيران، وهو امر مستبعد، فيما لا ينوي الاكراد زج قواتهم في غير الدفاع عن اقليمهم. اما قوات الجيش العراقي فتحتاج الى وقت غير قصير لاعادة تنظيم نفسها.
وسواء بقي «داعش» او انسحب، فإن ما حصل يكشف هشاشة الحكم القائم في بغداد ويفضح خطل اسلوبه في ادارة البلاد وفي التعامل مع باقي المكونات، ويؤكد عجزه عن اقناع العراقيين بوطنيته ونزاهته.