تحتَ جناح الظلام وقبل بزوغ الفجر، عادت أزمة الخلافات على مساحة من العقارات في لاسا إلى الظهور، عندما كسرَ خمسون مسلّحاً من «حزب الله» القرار القضائي واستكملوا البناءَ غيرَ القانوني وغيرَ المشروع على عقار متنازَع عليه مع مطرانية جونية المارونية، ما استدعى أن تُصدر النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان إشارةً قضائية بهدمِ ما بُنيَ ليلاً على العقار61، غير أنّ الضغوط السياسية المُعتادة في لبنان، جمّدت الإشارةَ 24 ساعة إضافية، ما يطرح علامات استفهام كثيرة عمّا يحصل على الأرض.
اعتبرت مصادر سياسية انّه ردّاً على زيارة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي إلى الأراضي المقدّسة وإصراره على انتخاب رئيس للجمهورية، فضلاً عن شنِّه هجوماً على المقاطعين للانتخابات الرئاسية، حرّكَ «حزب الله» مناصريه في بلدة لاسا، حيث تملك البطريركية عقارات تشرف عليها مطرانية جونيه، في رسالةٍ واضحة الى الراعي مفادُها أنّ الحزب قادرٌ على التحرّك بحرّية مطلقة في العمق الماروني، أي في منطقة جبيل التي تتوسّط أقضية الشمال المسيحي وجبل لبنان، والمحاذية لكسروان، مقرّ البطريركية المارونية. وأنّ ملفّ شراء الأراضي و»التسلّط» على أملاك المسيحيّين والبطريركية بالقوّة لا يزال سيفاً مسلطاً يستطيع الحزب تحريكه ساعة يشاء، في إطار الضغط على بكركي لتحقيق أهدافه السياسية، خصوصاً أنّ هذا الملف يشكّل همّاً أساسيّاً لها، بحيث يخرق الحزب المناطق المسيحية بطرقٍ مشبوهة عبر التمدّد الديموغرافي والجغرافي، بهدف إفقاد الموارنة قوّتهم وتأثيرَهم على الساحة السياسية اللبنانية، وذلك بعدما كان ضامناً للاتفاق على الأراضي المتنازَع عليها في لاسا، وتعهّد العمل على تنفيذه بكلّ الوسائل في مواجهة مواقف بعض الأفراد ممَّن أرادوا تخريب نسيج العيش المشترك في جرود جبيل ومنطقتها التي لم تعرف إلّا العيش المشترك واحترام النظام والقانون طيلة أيامها برعاية كلّ فاعليات جبيل ومنطقتها.
وفي التفاصيل، أنّ يسار المقداد، وهو عضو في «حزب الله»، شيَّد أعمدة مبنى على عقار متنازَع على ملكيته ويحمل الرقم 61، فاعترضَت البطريركية لدى النيابة العامة التي أبلغت إلى المقداد هذا الأمر.
ولكنّ مسلحين حضروا ليل أمس الى المكان ونفّذوا طوقاً حول الورشة، حيث تابع المقداد استكمال البناء، إلى أن طلبت القوى الأمنية منه ثانية التوقّف عن هذا العمل. وبعد قرار النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان هدمَ ما بُني ليلاً على العقار 61، باشرَ النائب العام الاستئنافي القاضي كلود كرم تحقيقاته في المخالفات التي شهدَتها بلدة لاسا، خلافاً لإشارات النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان.
في وقتٍ كان الفهود يستعدّون بمؤازرة من الجيش، لهدمِ ما تمّ تشييده على العقار المذكور، اعترضَهم الأهالي وأقفلوا الطريق التي تؤدّي إلى الورشة بالصخور. ونتيجة ضغوط سياسية، عادت النيابة العامة عن قرارها وقرّرت إمهال الإشارة القضائية 24 ساعة قبل هدم البناء، في انتظار انتهاء التحقيق واتّخاذ القرارات المناسبة.
وأكّد المقداد لـ«الجمهورية»، «إنّني أملك رخصةً قانونية تسمح لي بالبناء على العقار الذي بدأتُ بصبّ السطح عليه». وإذ لفتَ إلى أنّ «هذه الأرض غير ممسوحة، وبعدما مللتُ انتظار المسّاحين التابعين للدولة اللبنانية حتى يبدأوا المسح ولم يأتوا، قرّرتُ تشييد البناء، إذ إنّ مهلة الرخصة تشارف على الانتهاء». وردّاً على إشارة النيابة العامة، قال المقداد: «أنا باقٍ وصامد في منزلي الذي أقمتُه، وسأضع فراشاً داخله، ولينفّذوا القرار على رأسي، ولن أتزحزح، ولا أحد سيُجبرني على المغادرة».
في المقابل، قال وكيل مطرانية جونيه المارونية المحامي أندريه باسيل لـ»الجمهورية»، «إنّ القرار بوقف العمل في هذا العقار صدر منذ عامين، بسبب إشارة من المدّعي العام الى حين إظهار الحدود الرسمية للموقع، إلّا أنّ هؤلاء الشبّان صبّوا ليلاً سقف باطون على العقار 61 بلا انتظار القرار القضائي في شأن النزاع على الملكية». وشدّد على أنّ «هذه الرخصة مبنيّة على صكّ ملكية مزوّر وقّعَه مختار لاسا محمود المقداد عندما باع الأرض ليسار المقداد بعِلم وخبَر مزوّر»، مؤكّداً أنّ «الأرض تعود للمطرانية، وبحوزتنا كلّ الأوراق القانونية التي تثبت ذلك». ولفتَ باسيل إلى أنّ «مختار لاسا هو مَن منعَ المسّاحين، ولم يرافقهم لإنجاز المسحِ النهائي في لاسا»، مُشدّداً على «أنّنا نضع المسألة كلّها في عهدة القضاء».
في هذا السياق، أكّد رئيس «حركة الأرض اللبنانية» طلال الدويهي لـ»الجمهورية»، أنّ «العودة الى الإعتداء على أملاك الكنيسة المارونية لا يمكن أن يحصل بلا غطاء سياسي من «حزب الله» وهيمنته على جمهوره ومناطقه»، معتبراً ما حصل بأنّه «رسالة وردٌّ على زيارة البطريرك الراعي الى الأراضي المقدّسة».
ودعا الدويهي الأجهزة الأمنية الى «تنفيذ القرارات القضائية ووقفِ التعدّي على أملاك الغير»، مناشداً وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق «التدخّل شخصيّاً، لأنّ مجموعة من المسلحين المعروفين اعتدَت على قرارٍ قضائي»، مشدّداً على أنّ «الوضع السياسي والأمني لا يسمح بالتساهل مع المعتدين، خصوصاً أنّه سبق وتمّ الاتّفاق على الأرض في لاسا برعاية وزارة الداخلية، ولا إمكانية للتساهل مع أحد».
من جهته، قال منسّق الأمانة العامة لقوى «14 آذار» الدكتور فارس سعيد لـ»الجمهورية»، «إنّنا لن نقبل بعد اليوم تكرار السيناريو نفسه كما في كلّ مرّة، فهناك جهة مُعيّنة في لاسا تسمح لنفسها بالتباهي بأنّها أقوى من القضاء وأقوى من الدولة، وأنّها قادرة على كسر القانون»، لافتاً إلى أنّه «في الوقت الذي يقول فيه السيّد حسن نصرالله «إنّنا لا نريد رئيساً للجمهورية يحمي المقاومة، فنحن من يحمي الجمهورية»، يظهر شخصٌ من لاسا ليقول «إنّنا فوق القانون»، ملاحظاً أنّ «هذه المعادلة هي التي تفرض نفسها، ولا يمكننا أن نتقبّلها لأنّنا إذا سكتنا، فلن يتردّدوا في اقتحام بيوتنا». واستغربَ سعيد «كيف استطاعوا دحضَ قرار النيابة العامة وتأجيله نتيجة ضغوط سياسية»، مطالباً «حزب الله» بالإعلان صراحة عمّا إذا كان يحمي المقداد، أو أنّه يتنصّل منه إذا لم يكن حاميه، ويصدر بياناً ينفي مسؤوليته، ويضع هذا الفرد أمام مسؤوليّاته»، معتبراً أنّه «كان الأولى بالمقداد الاستجابة لإشارة القضاء عوضَ استعراض عضلاته في وجه القانون، ويوقِف أعماله في انتظار كشف أوراقه الثبوتية، وإذا كانت صحيحة فلا شكّ في أنّ القضاء سيسمح له باستكمال ما بدأه». وختمَ سعيد: «هذه المنطقة حسّاسة جداً، ولا يجوز أن يمرّ هذا الموضوع مرور الكرام، فأبناء لاسا لن يقبلوا بانتهاك كرامتهم والسيطرة على أراضي الأوقاف في غزوات مسلّحة لا مبرّر لها، وإلّا فسيستبيحون كلّ شيء في المرّة المقبلة».
في المحصّلة، تقف مشكلة تفشّي السلاح والاستقواء به عائقاً في وجه حلّ مشكلة لاسا، ولولا استقواء البعض بسلاحِهم لكانت القوى الأمنية هدمت المنزل بدقائق وأعادت الحقّ إلى أصحابه. لكن عدا عن أنّ «حزب الله» يتحدّى الموارنة في لاسا، تبقى المشكلة في وجود مربّعات أمنية للحزب في العمق المسيحي الذي يُفترض أن يكون آمناً ومحصّناً من هكذا اختراق.