IMLebanon

لماذا لا تدعو المسيحية السياسية اللبنانية إلى حالة طوارئ حول مسيحيّي المشرق؟

بعد أكثر من ستين عاماً على انهيار المكوّن اليهودي في المنطقة العربية ومعظم المسلمة بسبب تأسيس إسرائيل، ها هو المكوّن المسيحي، الأضخم عدداً من الوجود اليهودي السابق، يدخل في دوامة خطر وجودي غير مسبوق بسبب الأصولية الإسلامية.

هناك منعطفان كبيران للتغيير الديموغرافي الذي غيّر من شخصية مجتمعاتنا العربية وبعض الإسلامية في العصور الحديثة:

الأول هو تأسيس إسرائيل الذي جعل مجتمعاتنا تخسر بشكل شبه تام المكوّن اليهودي. كانت الجماعات اليهودية جزءاً عضويا من حياتنا العربية في مصر واليمن والمغرب والشام والعراق، كذلك في العالم الإيراني ونسبياً التركي. لكن التوتر العميق الذي أعقب تأسيس إسرائيل عبر طرد الفلسطينيين جعل وجود اليهود يتلاشى تدريجيا في المحيط العربي لأنه لأسباب عديدة لم يعد ممكنا في ظل صراع بهذه الضراوة.

الثاني هو العشر سنوات الأخيرة المنطلقة من التغيير العراقي والانفجار السوري. فالتداخل السوري العراقي هو المنعطف الآخر النوعي الذي يمكن أن يؤدي إلى خسارة وشيكة للمكوِّن المسيحي في سوريا والعراق (ناهيك أصلاً عن شبه تلاشي الوجود المسيحي في إسرائيل والمناطق التي تحتلها).

إذن بعد أكثر من ستين عاماً على انهيار المكوّن اليهودي في المنطقة العربية ومعظم المسلمة، ها هو المكوّن المسيحي، الأضخم انتشاراً وعدداً من الوجود اليهودي السابق، يدخل في دوامة خطر وجودي غير مسبوق.

إذا كان صعود الصهيونية مسؤولاً عن السياق التاريخي الذي ضرب المكوّن اليهودي في مجتمعاتنا، فإن صعود الأصولية الإسلامية هو المسؤول عما آلت إليه أوضاع المسيحيين. وأمام تدهور كارثي من هذا النوع  أي معنى، في هذا المقام، للحديث عن “أصولية معتدلة” و”أصولية متطرفة”؟ فما ثبت في الثلاثين عاما الأخيرة هو أن الأصولية المتطرفة وُلدت في رحم الأصولية المسماة حاليا “معتدلة”. وبهذا المعنى تلتقي مسؤوليات النخب المسلمة والمسيحية في المنطقة في البحث عن مخرج من كل المناخ الأصولي الذي يستشري في مجتمعاتنا ودولنا، ليس فقط سياسياً بل أيضا اجتماعياً وثقافيا واقتصادياً.

الكنيسة القبطية في مصر دخلت بشكل غير مسبوق الصراع على هوية الدولة في مصر وانحازت بوضوح إلى التيار المعادي لـ”الإخوان المسلمين”.

تركيا الديموقراطية الحالية وبسبب من ظروف تشكّلها في النصف الأول من عشرينات القرن المنصرم والتي أدت إلى تلاشي الوجود اليوناني والأرمني في الأناضول وبالتالي تلاشي معظم الوجود المسيحي على أراضيها بفعل المضمون الديني المباشر للصراع التركي (المسلم) اليوناني الأرمني (المسيحي)… هذه التركيا غير حساسة بنيويّاً لموضوع الوجود المسيحي في المنطقة و”نسيت” طويلا هذا التقليد العريق الذي صمد حتى نهاية الامبراطورية العثمانية.

إيران ذات النظام الديني هي أيضا معنية بنيويا بأولويات أخرى غير التنوع الديني حتى لو أن هذه الإيران انتبهت عبر انخراطها في التغيير العراقي والصراع على سوريا إلى معنى تهديد الوجود المسيحي في هذين البلدين. هذا ناهيك عمّا تعلّمت إيران رجال الدين، وتركيا “حزب العدالة والتنمية”، من التجربة اللبنانية ودور المسيحيين التأسيسي فيها. لكن الخشية هي أن كل هذا التعاطي مع دول ومجتمعات متعدّدة عربية لا يتجاوز في الخطابين الإيراني والتركي حدود اللياقات السياسية والثقافية.

المملكة العربية السعودية معنية بالحد من اتساع قوة “الهلال الشيعي” الإيراني وهي تتعامل منذ عام 2003 العراقي على أساس حماية خرائط منظومة دول مجلس التعاون، ليس بالدفاع وإنما بالهجوم… لكن المفارقة أن المملكة الأكثر قيادةً للاستنفار السني في وجه إيران هي نفسها باتت تخوض صراعاً مع “الإخوان المسلمين” وساهمت في إقصائهم في مصر. وهذا دورٌ قد يساهم مستقبلاً في نقل المنطقة إلى مناخ  غير مذهبي للصراعات.

على صعيد آخر، فعدا زيارة البطريرك الماروني بشارة الراعي إلى دمشق وزيارته لاحقا إلى إسرائيل لم تظهر على سطح الأحداث في المنطقة أي خطوة لمسؤول سياسي أو ديني أو لهيئة تمثيليّة أساسية من مسيحيّي الهلال الخصيب والعراق، ولبنان خصوصاً، تدل على استشعار عملي لاستثنائية الخطر الوجودي الذي يتعرّض له المسيحيون في المنطقة، ولاسيما مجدّدا في سوريا والعراق.

دلالة زيارتيْ البطريرك الماروني تتجاوز مناسبتيهما، الأولى للمشاركة في تنصيب البطريرك الأرثوذكسي والثانية لمرافقة بابا الفاتيكان في زيارته للأردن وإسرائيل والأراضي الفلسطينية.

عنتْ الزيارتان وجود تغيير في السلوكيات السياسية للكنيسة المارونية تمليه الحالة غير المسبوقة في المنطقة والتي باتت تهدد، أو هي فعلت فعلاً، بتغيير كامل لبنية المنطقة الدينية والحضارية منذ ظهور الإسلام في المشرق الشامي العراقي. لكن الفجيعة الكبيرة أن الهيئات التمثيلية السياسية لمسيحيي لبنان، الكتلة الوحيدة القوية سياسيا واقتصاديا بين مسيحيي المشرق (حتى لو كانت أقل ديموغرافياً من أقباط مصر)، أن هذه الهيئات التمثيلية لم تتحرك بما يعكس مسؤوليات هذا الوضع الخطير بل استمرّت في الغرق بخصوماتها الذاتية وفي انخراطاتها الخارجية وكأن ما يحدث لمسيحيي المنطقة لا يستأهل التصرف على أساس حالة طوارئ تدعو إليها باتجاه بناء استراتيجية جديدة باتت مطلوبة.

أين المراجعة الجادة التي تتجاوز مجرد التكتيك وتوجيه النداءات؟ نقول ذلك مع كامل المعرفة بحجم ارتباط وانخراط النخبتين السياسيتين السنية والشيعية المسيطرتين على طائفتيهِما، بل الطبقة السياسية اللبنانية كلها، بمشاريع إقليمية متناحرة.

في زمن هو أقرب إلى النهايات (التدميرية) منه إلى البدايات (البنّاءة)، ربما أصبح مطلوبا أن تتعامل قيادات المسيحيين اللبنانيين مع قضية مسيحيي المنطقة باعتبار لبنان “مسؤولا” عن مصير مسيحيي المنطقة وليس مجرد شاهد كبير عليه. هذا يعني مسؤولية سياسية تستلزم أولويات جديدة وهو بالنتيجة وضع مهمة نبيلة نصب أعين كل النخب اللبنانية (والعربية) من أي طائفة كانت.