من الأسباب التي قد تكون دفعت هيئة مكتب مجلس النواب إلى الموافقة على اقتراح الرئيس نبيه بري بجَعل نصاب الثلثين هو القاعدة في كل الجلسات والدورات، الخشية من أن يمارس «حزب الله» ضغوطاً على النائب وليد جنبلاط لانتخاب العماد ميشال عون.
المخاوف من تكرار سيناريو تكليف الرئيس نجيب ميقاتي حكومياً عبر انتخاب عون رئاسياً دفعت إلى التقاطع بين 8 و 14 آذار على مسألة النصاب، خصوصاً أنّ لدى فريق 8 آذار الخشية نفسها، ولكن ليس من ضغوط عاجزة 14 آذار عن استخدامها ولا تستخدمها أساساً، إنما من معطيات خارجية تؤول إلى انتخاب شخصية لا تتوافق مع أجندة «حزب الله»، ومن هنا سعى الحزب إلى إقفال الطريق أمام أي مفاجآت غير محسوبة، وإلى تحويل نفسه شريكاً في تسمية الرئيس العتيد.
وفي حال صحّت هذه المعلومات تكون 14 آذار مجتمعة قد ارتكبت خطأ تاريخياً لكونها شرّعت مخالفة دستورية، باعتبار أنّ النص واضح ويقول بنصاب الثلثين في الدورة الأولى فقط، وبالتالي مهّدت لعرف جديد يعطّل قدرة المسيحيين على إيصال مرشّحهم، وجعلت التوافق، لا الانتخاب والتنافس، هو المعبر لإيصال رئيس الجمهورية في خطوة لا علاقة لها بالأنظمة الديموقراطية، والهدف منها قطع الطريق أمام وصول أي رئيس يملك حيثية تمثيلية داخل بيئته المسيحية.
والمستغرب أنّ ما يصحّ على انتخاب رئيس الجمهورية لا ينسحب على رئيسي المجلس والحكومة اللذين يتمّ انتخابهما بأكثرية الحضور، فضلاً عن أنّ الطرف الأكثر تمثيلاً داخل الطائفتين السنية والشيعية هو الذي يفرض على الكتل الأخرى انتخاب مرشّحه أو تسميته، الأمر الذي يجب أن يدفع بكركي والقادة الأربعة وسائر المسيحيين إلى موقف تاريخي يكمن في الآتي:
أولاً، رفض نصاب الثلثين رفضاً قاطعاً وتعليق مهزلة الجلسات الانتخابية والضغط لتوضيح المادة 49 لمرة أخيرة بالشكل الذي يكون فيه النصاب والنجاح بعد الدورة الأولى على أساس النصف زائداً واحداً.
ثانياً، فتح اللعبة الانتخابية على مصراعيها بتقبّل النتيجة أيّاً تكن، وهي سيف ذو حدين، ولكنها تبقى أفضل من إبقاء الانتخابات الرئاسية رهن التسويات الخارجية وعلى حساب صحة التمثيل المسيحي، وذلك على قاعدة يوم لك ويوم عليك، بدلاً من أن تكون على حساب صحة التمثيل باستمرار.
ثالثاً، وضع القوى الإسلامية أمام مسؤولياتها بانتخاب المرشح الذي يكون أجمَع عليه فريقه السياسي عوضاً عن البحث عن مرشح لا علاقة له بأيّ من الفريقين ولا ببيئته المسيحية.
وفي هذا السياق، المشكلة ليست عند 14 آذار وتيار «المستقبل» تحديداً الذي سمّى الدكتور سمير جعجع وشارك في كل جلسات الانتخاب بغية إيصاله إلى الرئاسة الأولى، وقد لا تكون لدى «حزب الله» الذي يدعم عون ويتضامن معه في تعطيل النصاب، إنما المشكلة في الحقيقة هي لدى فريقين:
أ- عون الذي يتعاطى مع الاستحقاق الرئاسي على قاعدة «أنا أو لا أحد»، ويخشى من توفير النصاب الذي قد يوصِل رئيساً غيره، ما يتطلب موقفاً حازماً من البطريركية المارونية بتحميله مسؤولية تفريغ موقع رئاسة الجمهورية، وإبقائه هذا الموقع مهمّشاً وضعيفاً نتيجة وضعه رهن التسويات لا الانتخابات، خصوصاً أنه ما زال يأمل بالتوافق عليه رئيساً.
ب- جنبلاط الذي يفضّل وصول رئيس ضعيف، كما التمايز عن 8 و14 آذار عبر استبعاد جعجع وعون، فيما المطلوب حَشره باختيار أحدهما، وتحميله مسؤولية خياره أمام الشارعين اللبناني والمسيحي، على غرار تحمّله تداعيات تكليفه الرئيس نجيب ميقاتي الذي أدى إلى قطع علاقته مع السعودية وتوتر علاقته مع الشارع السني.
وفي هذا السياق يبرز التساؤل الآتي: هل خوف 14 آذار من ممارسة «حزب الله» الضغط على جنبلاط لانتخاب عون كان في محله؟ ولماذا لا يضغط الحزب لتأمين وصول حليفه المسيحي؟
وفي الإجابة أنه على رغم المخاوف من غير المسموح تعطيل اللعبة الديموقراطية التي يجب أن تكون 14 آذار من أكثر الحريصين عليها، ولكن كان يفترض بها الأخذ في الاعتبار معطيات عدة أبرزها:
1- إنّ ميزان القوى الذي دفع جنبلاط لتكليف ميقاتي لم يعد قائماً، وهذا لا يعني أنّ «حزب الله» عاجز عن التهويل، ولكنه يفضّل أن ينأى بنفسه لمواصلة تفرّغه السوري، خصوصاً أنّ نأيه بنفسه لن يقود إلى انتخاب رئيس ضده، بل إلى الفراغ، فلن يجازف بعلاقته مع أيّ طرف طالما أنّ مصالحه غير مهددة.
2- «حزب الله» ليس في وارد عقد أي تسوية على حساب عون كونه لا يريد فك التحالف معه، ولكنه في الوقت نفسه لا يقوم بأيّ جهد لإيصاله تاركاً المبادرة بيده والتي يسهل قطع الطريق عليها في حال توافر موقف مسيحي 14 آذاري موحّد.
3- «حزب الله» يخشى ضمناً من عون على رغم أنّ العلاقة الاستراتيجية بينهما المتّصلة بالمقاومة لم تشبها أيّ شائبة، وهذه الخشية مردّها إلى أنّ عون قادر على تجييش المسيحيين خلفه، وبالتالي في حال وقوع أيّ خلاف معه يتحوّل إلى خلاف مع المسيحيين.
وفي المحصّلة، الحزب لا يريد تشريع الباب أمام عودة الرئيس المسيحي التمثيلي إلى موقع الرئاسة الأولى، لأنه يريد تحييد المسيحيين للموازنة مع السنّة، كون التكامل بين رئيسي الجمهورية والحكومة يؤدي إلى تطويقه في الداخل، فيما المصلحة المسيحية اليوم تكمن باستعادة دورهم في رئاسة الجمهورية عبر إسقاط نظرية التوافق وفتح باب التنافس.