ارتفعت في الاسبوعين الماضيين اصوات عدة تسأل، بالسخرية حيناً وبكثير من السخط أحياناً، عن سبب غياب «حزب الله» عن جبهة غزة وانصرافه عما يفترض إنه علة وجوده، أي محاربة اسرائيل، الى القتال في سورية الى جانب نظام الأسد.
وفيما كانت غزة تقصف بلا هوادة، اشتعلت المعارك على جبهة اخرى في لبنان، هي الحدود الشرقية لجهة سورية مقابل هدوء تام على الحدود الجنوبية مع الاراضي المحتلة. هذا وحرص الجيش اللبناني وقوات «اليونيفيل» على اغلاق الحدود كلياً وضبطها، وتوقيف مطلقي الصواريخ الذين بدوا أقرب الى الهواة المتهورين منهم الى العسكريين المنظمين.
وعليه، باتت المعادلة واضحة، ومعها توزيع المهام. إغلاق محكم لجبهة الجنوب وضبط حدودها التي ترتسم (للمفارقة!) عند الخط الازرق وليس عند الحدود الفعلية، مقابل استباحة كاملة للحدود الشرقية مع سورية وجعلها جبهة بديلة وساحة نفوذ مطلق لـ «حزب الله».
وإذ وجد كثيرون في قصف غزة فرصة لاستعادة المقارنات غير المجدية بين وحشية اسرائيل ودموية الأسد، ومناسبة للتصبب على «ظلم الاقربين» في سرديات عاطفية لا تفعل سوى تأكيد المؤكد، يبقى أن تلك المقاربات كلها تصب في منهجية تفكير وتقييم لم تخرج بعد من طور «الممانعة».
فأن يطالب جمهور غير قليل من اللبنانيين والسوريين المؤيدين للثورة، «حزب الله» بالانسحاب من سورية وتوجيه بندقيته الى اسرائيل نصرة لأهالي غزة، يكشف أولاً جهلاً عميقاً بالحزب وآليات اتخاذ القرارات داخله، وتشبعاً كبيراً بـ «بروباغاندا المقاومة» التي ساقها لنفسه طوال سنوات حتى تحولت ثقافة جمعية شائعة أو ما يسمى «pop culture» حتى ضمن خصومه.
فهؤلاء عندما يطلبون ما يطلبون، كأنهم يقرون ضمنياً أو لا ارادياً ربما، بأن «حزب الله» مقاوم عن حق، وضل الطريق بذهابه الى سورية. لذا يكفي تذكيره بأن البوصلة هي فلسطين ليعود الى السراط المستقيم ويحقق رغبة الجماهير. وهو إذ ذاك يكاد يبدو وكأنه سلطة منتخبة من الشعب تتحكم خيارات الاكثرية بسلاحها وقراراتها العسكرية!
وليس بسيطاً ان تأتي تلك المطالب من بيئة يفترض أن تكون ضد سلاح «حزب الله» جملة وتفصيلاً، لا لكونه اطاح بمقاومة علمانية لمصلحة أخرى دينية فحسب، ولا لكونه وجّه سلاحه الى الداخل اللبناني بعد 2006، بل لأن سلاحه هذا خارج عن إطار الدولة التي تعاقد اللبنانيون على بنائها بعد انتهاء الحرب الاهلية. ولأن هذا السلاح نفسه كان ولا يزال بيضة راجحة في قبان السياسة الداخلية والاقليمية.
لكن يتكشف أن من يذكرون بالبوصلة الفلسطينية عند كل مفترق، لا يمانعون عملياً في انخراط الحزب بحروب اقليمية ولا يعارضون ان يؤدي دوراً يتجاوز حدود لبنان، طالما توافق ذلك مع سياساتهم ومصالحهم.
وعليه، يرى المعارضون السوريون وبعض اللبنانيين من حولهم، أن فتح جبهة الجنوب باتجاه فلسطين، أولى وأحق من فتح جبهة القلمون أو القصير او غيرهما، طالما أن النيران توجه بعيداً منهم وتنتصر لـ «القضية المركزية».
وهنا يكمن سوء تفاهم مضمر آخر حيال دور لبنان وصورته لدى ابنائه وفي الوجدان السوري. فالأخ الأكبر، بشقيه المعارض والموالي، لم يتخل كلياً عن توكيل البلد الاصغر وشعبه بمهمة مقارعة اسرائيل والدفاع عن الفلسطينيين في أرضهم، متنصلاً في المقابل من اية مسؤولية تتجاوز منابر الخطابة حيال هؤلاء او حيال الجولان المحتل.
لكن كيف يستوي ضدان تحت سقف واحد؟ كيف يمكن من يعارض تدخل «حزب الله» في سورية أن يطالب به في غزة بمعزل عن أي اعتبار للبنان ورغبة اللبنانيين؟ فباعتماد المنطق نفسه، يصبح من حق «حزب الله» اختيار «قضاياه» وساحات قتاله وفق أولوياته هو، سواء كانت سياسة او استراتيجية أو حتى دينية بغض النظر عن مصالح مواطنيه وأهوائهم، وهو دأبه أصلاً منذ 2006.
والواقع ان الازمة التي يعيشها لبنان اليوم تتجاوز كل ما مر به منذ نشأته واستقلاله، فهي تهدد هويته الاولى وتحضر لإعادة رسم خريطته الفعلية والمعنوية وصياغة أدواره وفق مقتضيات الجوار فيما رغبة أبنائه العميقة هي الانكفاء على الداخل وتحييد أنفسهم عن محيط مشتعل بقضايا مركزية أو فرعية. أما القول إن اللبنانيين مفتونون بالمقاومة وأدوار البطولة، فيكفي أن أبناء الجنوب بدأوا يظهرون على وسائل الإعلام ويفصحون صراحة عن عدم رغبتهم في إطلاق الصواريخ من حقولهم واستدراج اسرائيل اليهم… هؤلاء، كما أبناء البقاع وبقية اللبنانيين أُنهكوا من زراعة الريح وحصاد العواصف موسماً بعد آخر.