لماذا يتراجع المعتدلون إلى الصفوف الخلفية؟
رهان مسيحي على «صحوة إيجابية» إسلامية
يراقب المسيحيون اللبنانيون صعود الإرهاب في لبنان والمنطقة بمزيج من الدهشة والخوف. دهشتهم لا تنبع من العنف الناتج عن الإرهاب، وقد اختبروه وعايشوه و«قاتلوا وقتلوا» في زمن الحروب اللبنانية. وخوفهم ليس فقط ناتجاً عن التوجس من الموت بحزام إرهابي ناسف او سيارة مفخخة.
فالإرهاب الذي يحاول ان يفرض نفسه ضيفاً شبه مقيم في الحياة اللبنانية، يسرق من المسيحيين اللبنانيين «لبنانهم» الذي شكلوه وعرفوه وتوهّموا امكانية ازدهاره. لكن الاخطر والاسوأ، ان هذا الارهاب يقضم شيئاً فشيئاً ما تراكم من حد أدنى في العمارة اللبنانية المشتركة. وهذا ما يجعل المسيحيين يطرحون الاسئلة المقلقة والمعقدة حول شركائهم المسلمين المعتدلين من مختلف المذاهب. فالسلوك العام للطوائف الإسلامية، بحسب كثر من المسيحيين، يميل أكثر فأكثر الى مراعاة الخطاب والسلوك المتطرف. يتراوح هذا الميل بين التفهم والتبرير، ولو ارفق بإدانة مسبقة، وبين الدفاع عن اصحاب هذا السلوك والخطاب.
لا يخفي مسؤول كنسي ماروني، وهو استاذ جامعي، الخوف «من ان تنجح موجة التطرف التي تضرب المنطقة في ان تقضي على كل اعتدال حقيقي في لبنان. لا ينفعنا كثيراً كلبنانيين تبادل المسؤوليات عمن بادر او شجّع او دعم. فالصراع المذهبي مفتوح في كل المنطقة، ومن المكابرة وضيق الافق التنكر لهذا الواقع. والخوف يزداد باستمرار على المعتدلين من كل الطوائف. هؤلاء المعتدلون الذين يتراجعون الى الصفوف الخلفية، مع ازدياد سطوة الجماعة ونظامها وانتظامها الاجتماعي والسياسي».
وسط هذه الصورة، هل يمكن للمسيحيين التخفيف من حدة هذا التأزم؟ اي دور لهم وسط الجنون المتعاظم؟ يجيب المسؤول «لست من المتحمسين للنظريات التي تقول ان على كل جماعة ان يكون لها دور محدد لتبرر وجودها وحضورها. اي ان المسيحيين، كما سواهم، هم ابناء هذه الارض يعيشون عليها ويحاولون ان يتطوروا ويطوروا حياتهم ومجتمعهم وفق حركة التاريخ. لكن في ظل ما تشهده المنطقة لا بد، ربما، من بعض الاستثناءات. ومع ذلك فإنني أجد ان اهم ما يمكن للمسيحيين اليوم ان يقوموا به هو إمعانهم في فصل الدين عن الدولة، والابتعاد عن كل خطاب طائفي او مذهبي، والاهم عدم انحيازهم لاي معسكر من معسكري الانقسام الشيعي او السني». يتابع: «على المسيحيين أن يعيشوا وفق قناعاتهم فيدفعوا باتجاه دولة مدنية عادلة وديموقراطية. دولة لا يتم اقحام الدين في شؤونها ولا في تفاصيل ادارة حياة الناس، وان يبحثوا عن شركاء معتدلين لهم في كل الطوائف ليمدوا بينهم الجسور».
ألا يعتبر تدخل الكنيسة في الحياة السياسية إقحاماً للدين في الحياة العامة؟ يردّ المسؤول الكنسي معلقاً «ان الكنيسة لا تتدخل في التفاصيل السياسية. هي تطرح شعارات وطنية وتدافع عنها، كالسيادة والحرية والتوازن في السلطات والتمسك بالعيش المشترك والمناصفة واحترام الدستور. وفي المجمع البطريركي الأخير طالبت الكنيسة بقيام الدولة المدنية التي تفصل بشكل تام بين الدين والدنيا. ومع ذلك ادعو الى مزيد من تحرير الدولة ومؤسساتها عن أي تدخل من قبل رجال الدين. لكن المشكلة اليوم، بكل محبة، هي عند اخواننا المسلمين. على حكمائهم ان يبادروا الى وقفة شجاعة تحمي المجتمع والدين والوطن معاً. لا اريد ان اشير عليهم ما يفعلون، وبين أوساطهم كثر ممن يدعون الى اعادة قراءة القرآن الكريم على ضوء الراهن، واعادة المصالحة مع التاريخ وتطهير الحاضر من ثقل أعبائه. احيانا اميل الى القول ان المتطرفين يسرقون الاسلام في غفلة من اصحابه. واحياناً تصفعني بعض الحقائق المتعلقة بسلوكيات معينة او خطاب لأطراف يفترض انهم معتدلون ومنفتحون».
إذا كان رجل الدين الجامعي يجيد تنميق تعابيره وافكاره ويراهن على «صحوة اسلامية ايجابية تنطلق من لبنان»، الا ان تعابير المسيحيين، خصوصاً ابناء الطبقات الوسطى والأدنى اجتماعياً وثقافياً، تحمل الكثير من القلق والخوف من المسلمين عموماً، ومن تداخل السياسي والديني في خطابهم. يزداد خوفهم لأنهم لا يلمسون حلولاً او وسائل تواصل معبّدة.