IMLebanon

لو رشّح ستريدا..!

ليس للسيدة ستريدا جعجع، على الارجح، كارهون في لبنان. من لا يوافقها خطها السياسي يسعده جمالها وأناقتها. حين تخرج من دور الزعامة العائلية التقليدية وما تفرضه من واجبات الخطاب الرسمي البارد تصبح أقرب الى قلوب مشاهديها. لعلها قاربت شيئاً من هذا في البرنامج التلفزيوني الجميل «سيد القصر» الذي تقدمه الزميلة سمر أبو خليل عبر «الجديد».

لنفكر لبرهة بالسؤال التالي: ماذا لو كان رئيس القوات اللبنانية تخطى ذاته ورشّح زوجته للانتخابات الرئاسية؟

أولاً: كانت سحبت البساط من تحت أقدام كل الذين يعيبون على سمير جعجع تاريخه.

ثانياً: كانت ستعطي نكهة خاصة للانتخابات لكونها امرأة تطمح لمنصب يحتكره الذكور عبر تاريخ لبنان.

ثالثاً: كانت ستفتح أبواباً لم ينجح سمير جعجع في فتحها حتى الآن. لعل خطابها الانفتاحي الهادئ والمدروس بدقة في مجلس النواب مهَّد لذلك. البعض اعتبره مناورة للحصول على تأييد مستحيل من قوى ٨ آذار لزوجها. البعض الآخر رأى فيه بادرة جيدة يمكن البناء عليها.

رابعاً: كانت لا شك ستحافظ على الخط السياسي للقوات ذلك أنها وزوجها متفقان تماماً على هذا الخط حتى ولو تباينا في التعبير عن هذا الخط.

لعل سمير جعجع كان يدرك، منذ ترشيح نفسه للرئاسة، ان حظوظه شبه معدومة. لعله أراد فقط تسجيل موقف سياسي هام له وللقوات. لعله حلم للحظة انه قد ينجو بالترشح اذا ما حدثت مفاجآت محلية وإقليمية. لعله أراد احراج حلفائه في ١٤ آذار. او لعله، ببساطة، أراد قطع الطريق على العماد ميشال عون. كلها احتمالات صحيحة لكن الأكيد انه لو رشح السيدة مكانه لكان صار سيد المواقف وأحدث بلبلة كبيرة.

يذكر من كان يزور ستريدا جعجع اثناء سنوات اعتقال زوجها كم كانت جامدة كالصخر في تعبيرها السياسي، وضعيفة كطفلة في تعبيرها العاطفي. لم تكن تتردد في اخراج بعض قصاصات الورق او «الكلينكس» لتقرأ ما كتبه لها زوجها من رقيق الكلام رغم الاعتقال. كانت لبرهة تخرج عن قمعها لنفسها وتكاد تدمع. تكاد فقط، لان دور الزعامة يفترض القسوة. هكذا هم اهل المناطق الجبلية النائية. تعلموا عبر التاريخ كيف يغلِّفون العواطف العميقة بالقسوة الظاهرة، وربما المصطنعة.

ليس سمير جعجع الوحيد من كان له تاريخ مضطرب وفيه الكثير من الأخطاء. لكن يُشهد له انه، بعد رئيس جبهة النضال وليد جنبلاط، بات ثاني زعيم يعترف بأخطائه ويعتذر. لعل بعض أخطائه كانت فادحة الى درجة عدم قدرة البعض على قبول الاعتذار والصفح والمسامحة. هذا حقهم، لكنه حاول. لم يحاول اليوم فقط، فهو ذهب حتى المشاركة في مأتم باسل الاسد ليطوي صفحة، وما طواها.

سنوات السجن سمحت لرئيس القوات بالقراءة والتعمق بالفلسفة والأديان. تأثّر بفكر تيلار دوشاردان. كان ذاك الفيلسوف الروحاني اليسوعي الفرنسي عالماً أيضاً بالفيزياء والحفريات والطبيعة. آمن بوحدة الكون وتطوّره ونموّه وتقدمه. مشكلة سمير جعجع انه دائماً يتحدث عن دوشاردان، لكنه لم يظهر حتى الآن نموذجاً في ممارسته للسياسة يجسد تأثره بهذا الفيلسوف.

في المدينة الفاضلة اللبنانية ارتكب الساسة في الفساد وإفقار الشعب والتطيّف والمذهبة والتآمر أفظع مما ارتكب سمير جعجع وغيره في الامن والسياسة وقبل الاعتقال. لكن المحاكمات الأخلاقية في المدينة الفاضلة اللبنانية دائماً نسبية واختيارية. لن يستطيع قائد القوات محو ذاك التاريخ حتى ولو أن أطرافاً قاتلته عبر التاريخ او كانت ضحية سياسته السابقة عادت وساهمت في تعويمه سياسياً.

لعله آمن بأن الحاضر يمحو التاريخ. لعله صدَّق ان عدوه السابق وليد جنبلاط سيقبل به رئيساً للجمهورية. كان الزعيم الدرزي واضحاً حين التقى بالامير السعودي بندر بن سلطان. ينقل عن ذاك اللقاء قول جنبلاط لرئيس الاستخبارات السعودية سابقاً: «ان كنتم تريدون استقراراً للبنان فلا تأتوا لا بجعجع ولا بالعماد عون». جنبلاط يقرأ المتغيرات ويتكيّف. جعجع يقرأ المتغيرات ولا يتكيّف. مع ذلك فإنه جذب الآخرين اليه ولم يذهب اليهم. هو لم يتغيّر، هم احتاجوه فاقتربوا. حينت انتفت الحاجة، صار عبئاً حتى على حلفائه في 14 آذار وعلى المستقبل والسعودية رغم خطاب التأييد.

حين يحصل سمير جعجع على ٤٨ صوتاً نيابياً، فإن ذلك يعني بوضوح انه ينطق باسم قوى 14 آذار وتيار المستقبل. هذه صفحت له كل تاريخه وتعتبره شريكاً رغم لوم اللائمين. هذا حقها. وحين يكون سباقاً في وضع برنامج انتخابي رئاسي متكامل، يكون الحلم قد دغدغه فعلياً يوماً ما للوصول الى الرئاسة. الحلم انكسر مرة جديدة رغم الوعود الغربية والسعودية وغيرها.

جاء جعجع من عائلة بسيطة. كان حلمه ان يصبح شخصاً مهماً. خدم في لحظة معينة مشاريع آل الجميل. كان في قرارة نفسه يطمح الى الإطاحة بالعائلة الإقطاعية وفق رفيق سابق له. تقول احدى رفيقاته السابقات انه كان يحب افلام الفيديو التي يحضر منها الكثير. كان يرغب في الذهاب الى علب الليل ويرغب بتعلم حياة اهل بيروت التي احبّها وكرهها في آن، شأنه في ذلك شأن تناقضات كل أهل المناطق النائية حين ينزلون الى المدن. كان راغباً بالحياة السياسية والنجاح. لعله نجح بالزواج من سيدة كان كثيرون ينشدون قربها لأنها هي اولاً، ولأن عائلتها مهمة. سرعة الوصول الى الحلم سمحت له بالقيام بكل شيء. هذا كان من التاريخ.

ولأن التاريخ في المدينة الفاضلة يصبح حاضراً وفق الطلب، فان جعجع قبل غيره كان يعرف ان حظوظه بالرئاسة قليلة، تماماً كما كان يدرك سابقاً ان القتال في الجبل ضد الزعامة الجنبلاطية ضرب من الوهم. في الحالتين كان حلمه اكبر من الواقع فأخطأ. في الحالتين كان جنبلاط مساهماً في حرق حلمه.

ماذا إذاً لو كان رشح ستريدا. ألم يكن أحدث ضجة كبيرة وربما أربك كثيرين؟ لعله فكّر بذلك. لعله ما استطاع حتى التفكير به. حلمه ربما يتخطى الجميع حتى زوجته. في جميع الاحوال فإن ترشحه وحصوله على هذه النسبة من اصوات النواب تركت في تاريخه الحديث ما قد يمحو شيئاً من تاريخه الصعب. هذا في حد ذاته انجاز.