IMLebanon

لو كنت رجلاً في ميدان التحرير…

قال صديق عاد لتوه من القاهرة إن ثمة «قطبة مخفية» في ظاهرة التحرش الجنسي الجماعي المستعرة منذ فترة في الشوارع والميادين المصرية. فصحيح أن تلك الممارسات لم تكن ولـيدة الأمـس ويعود بعضها إلى نحو عقد أو أقل بقليل من الزمن، إلا أنها كانت «موسمية» و«مركزة» بمعنى أنها ارتبطت بفترات الأعياد والإجازات وما تشهده من ازدحام الفضاء العام من جهة، واقتصرت على أماكن ومناطق محددة مثل المنتزهات أو وسائل النقل العام الشعبية (الميكروباص).

أما وأنها أصبحت اليوم سلوكاً شبه عام ويومي، والأسوأ أنه منظم، بدأ مع انطلاقة الشرارة الأولى للثورة في 2011 واستفحل أخيراً في حفل تنصيب الرئيس عبد الفتاح السيسي حتى كاد يغطي عليه، فقد خرج الأمر عن السيطرة وبات البحث عن تلك «القطبة المخفية» مسألة أمن قومي.

والواقع أن القانون الذي صدر أخيراً بتجريم التحرش الجنسي وتشديد العقوبة عليه، بعدما كانت غائبة كلياً، يأتي في وقت كان عقال المجتمع انفلت وباتت المقاربة الأمنية على أهميتها غير كافية. فثمة ثقافة عامة غذت وتغذي هذا المنحى سواء عبر التقليل من شأنه أو عبر رفضه والتنديد به أحياناً. فإحدى أبرز الإعلانات «التوعوية» التي انتشرت منذ بعض الوقت تصور حبة سكاكر منزوعة الغلاف والذباب يحوم حولها، فيما الأخرى المغلفة ابتعد عنها الذباب. وفي ذلك إهانة مزدوجة ليس فقط لجهة تسليع المرأة عموماً وتنميطها بصفتها «سكرة»، وإنما أيضاً بالتمييز بين المحجبة وغير المحجبة في مسألة من هذا النوع، ما يجعلها كضحية مسؤولة عما ألم بها.

وإلى هذا وذاك، يحيل إعلان من هذا النوع الشاب المتحرش إلى كونه مجرد ذبابة، يفترض أنها تستحق السحق. وهي للأسف مقاربة اعتمدت لاحقاً في غالبية الحملات المناهضة للتحرش ومنها مثلاً تعريف المتحرش بأنه هو، بشخصه لا بسلوكه فقط، حيوان، أو وحش أو حشرة، بما يلغي أي احتمال لعلاج المشكلة أو تصحيح الوضع إلا بالاستئصال الكلي. فمن يريد تسمين وحش أو حشرة سامة بين ظهرانيه؟ المنطق الوحيد يقضي بسحقه وإبعاده، وهو المبعد والمهمش أصلاً… فكيف لا يستعين برفاقه ويكشرون عن أنيابهم؟

وإلى ذلك، تبنت حملات أخرى منطق الاستعطاف وتوجهت إلى المتحرش بشيء من الدونية مطالبة إياه بـ «ضبط النفس»، وذلك بأن جعلت الضحية بمصاف الأخت والأم والزوجة. علماً أن الاغتصاب يبدأ أحياناً في أروقة المنازل وخلف أبوابها المغلقة، بينما تستحق المرأة، أي امرأة عابرة سبيل، ألا يعتدى على جسدها مهما كانت درجة القرابة بمن حولها.

والحال أن تلك السلوكيات تستمد قوتها من قيم مجتمعية شاعت واخترقت السلم الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، بحيث اختلت المفاهيم والمسؤوليات وبات قاع الهرم قادراً على فرض ذائقته وأدبياته على النخب. فليس من دون دلالة أن عمر المعتدين في الأحداث الأخيرة يتراوح بين 15 و50 عاماً، كما ليس من دون دلالة أن تقول نجمة تلفزيونية عن آخر ضحية تحرش زارها السيسي في المستشفى «يا بختها، ما فيش حد يتحرش بينا؟». أو أن تعزو مذيعة أخبار تلك الأفعال الشنيعة التي طاولت عدداً من النساء خلال حفل التنصيب بأنه تعبير عن الفرح! هذا وكان رئيس جامعة القاهرة اعتبر قبل فترة وجيزة إن سبب الاعتداء على طالبة داخل الحرم الأكاديمي بأن «لباسها ينافي التقاليد والمعايير الاجتماعية».

وعوضاً من أن تشكل تلك «النخبة» الفنية والإعلامية والأكاديمية رأس حربة في مواجهة ثقافة التحرش قبل أفعاله، وتدعو إلى استعادة مفاهيم الزمالة في مكان العمل والشراكة في الحيز العام، تراها ترسخ الفكرة النمطية عن المرأة والرجل وتمعن في جعلها أقل شأناً منه. فالرئيس السيسي نفسه، وفي معرض مواساته للضحية الأخيرة، اعتبر أن المسألة باتت قضية «عرض وشرف» وطني وتستدعي إيقاظ «النخوة» في نفوس المصريين. مرة أخرى، وبكل بحسن نية وعزم واضح على التصدي للمشكلة، يعاد جسد المرأة لأن يكون شرف الرجل ويجب أن يوضع تحت حمايته.

هذا وتبقى «القطبة المخفية» في فهم دوافع هؤلاء المتحرشين ومحركهم الداخلي. فلو كان الواحد منا رجلاً في ميدان التحرير في ذلك اليوم، ما الذي قد يدفعه للالتحاق بزمر هستيرية تمزق جسد امرأة ولا تكتفي كما في الميكروباص بلمس وغمز؟

القول هنا إنه غياب الوازع الديني والأخلاقي وغسل دماغ إعلامي و»دلع البنات» وغيرها من المسوغات المتداولة، ما عاد كافياً. فتلك الاعتداءات لا تنبع من رغبة جسدية تبحث عن إشباع ما. إنها على العكس تماماً، تحمل عنفاً وكراهية تجاه ذلك الجسد الأنثوي «الأضعف»، ولكن الأكثر حضوراً في الفضاء العام في الآونة الأخيرة. فليست الشوارع والساحات العامة ووسائل النقل إلا مساحة اختبار يومي لقيم التشارك والمساواة والاعتراف بالآخر جسداً وكياناً. أما في تلك المزاحمة العالية، فيصبح الجسد المهشم دليلاً وحيداً على قدرة التفوق الذكوري.