IMLebanon

ماذا تقول الأسطورة؟

لا سامحَ الله تنظيم «داعش» على ما يرتكب من جرائم وموبقات.

لا يكفي أنه شوّه صورة الشرق والإسلام، وزوّر ثقافتهما، واضطهد المسيحيين، وأطلق العنان للقتل والإرهاب.. بل فعل كل ذلك فيما لبنان على أبواب انتخابات رئاسية وأخرى نيابية، فألزمنا، غصباً عنّـا، بالاستماع إلى موجة من الخطابات والشعارات والمزايدات ممّن يريدون إفهامنا أن مسيحيي الشرق في خطر داهم، وأنهم (الخطباء المرشحون)، ضمانة المسيحيين وحماتهم.

للمناسبة، الوزير الطامح للنيابة، الذي استغلّ هجمة «داعش» البربرية ضد مسيحيي الموصل ليعبّر عن ضيقه من الفتح الإسلامي من أساسه ويعلن فشل «كل أشكال الحياة المشتركة» بين المسيحيين والمسلمين، خلال أربعة عشر قرناً، لم نسمع أنه أقيل من منصبه حتى الآن. لماذا تأخر هذا التدبير البديهي؟

بالعودة إلى الأهمّ، والأعمّ، تبدو الساحة الإعلامية مكتظة بمزايدات تصوّر الشرق وكأنه غابة من الوحوش المتعصّبة، وأن الأصل فيه للأنماط الداعشية، وكل ما عداها استثناء. وتستنتج أن المسيحيين في خطر دائم، مع أن وجودهم هو مصدر التنوّر الحضاري في المنطقة، بحكم اتصالهم الثقافي والديني بالغرب.

هذه أسطورة قائمة على المغالطات وعلى الفرضيات الوهمية، هدفها تخويف المسيحيين ثم استغلال خوفهم. فللمسيحيين، في مواجهة الظلامية، حلفاء في الشرق هم الاتجاه الغالب والكاسح من النخب الإسلامية. والمسيحيون يعيشون في المنطقة على قاعدة الحق الكامل بالمواطنية، وليس وجودهم أجراً مدفوعاً لقاء خدمة يؤدّونها هي تأمين التواصل بالغرب وحضارته.

التواصل بالغرب وحضارته ومفاهيمه العصرية هدف سعت إليه حكومات ومجتمعات عربية منذ القدم، وعملت على تحقيقه بطريقة مباشرة ودون وساطة، ولم تأبه للمتزمتين المسلمين الذين يريدون الشرق العربي جزيرة منعزلة محكومة بالتخلف.

في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر كانت مصر، بالتعاون مع الفرنسيين، تقتبس الإدارة الغربية في مختلف المرافق. كان في القاهرة كلية للطب وأخرى للهندسة وثالثة للجسور والطرقات، وتأسّس فيها معهد البوليتكنيك، ومدرسة حربية حديثة بموازاة إدارة جديدة للجيش. وبفضل هذا التواصل انطلقت نهضة فكرية وثقافية لا سابق لها استمرّت حتى سقوط الملكية، رفدت الثقافة العربية بموجات متعاقبة من الأفكار والتيارات الإصلاحية والتقدّمية، على مختلف المستويات الدينية والسياسية. هذه النهضة، التي شارك فيها مسيحيون مشرقيون، كانت قيادتها معقودة للمصريين، لاسيما رجال دين مسلمين رفعوا راية الإصلاح في الشرق العربي كله، من رفاعة رافع الطهطاوي إلى الشيخ محمد عبده، ومعه العالم اللبناني الشيخ رشيد رضا، الرفيق الروحي والفكري للأمير شكيب أرسلان.

وحفلت مصر بمئات الشخصيات التي واجهت التعصب والتزمّت وعملت على التنوير، غير عابئة بالمخاطر. لقد طعن نجيب محفوظ بقصد قتله، واستشهد فرج فودة بسبب أفكاره المخالفة للإسلاميين، وفرّق نصر حامد أبو زيد عن زوجته، وهجّر من مصر حتى الأسابيع الأخيرة من حياته، وتلقى الفنان المبدع عادل إمام تهديدات جدّية بالقتل لم تثنه عن كفاحه، على طريقته، ضد قوى الظلام والرجعية.

بعيداً عن ذلك، عندما تقدّم العميد ريمون إدّه باقتراح قانون السرية المصرفية كان يطمح إلى جعل لبنان «سويسرا الشرق»، أي مستودعاً للودائع العربية. ولكن طموح العميد لم يتحقق. فقد أقامت دول الخليج منذ البداية علاقات مباشرة مع المراكز المالية الغربية في نيويورك ولندن وزوريخ وسواها، من دون المرور بالنظام المصرفي اللبناني، وبقيت المصارف اللبنانية مصارف اللبنانيين وحدهم تقريباً. وبفضل هذا الاتصال، أقامت دول الخليج نظامها المصرفي الخاص وفقاً لأحدث معايير الصناعة المالية في العالم، واقتبست أحدث أدوات الإدارة المصرفية ونظمها. ولا نغفل النجاح الباهر لدبي، التي بنت قاعدة متقدّمة للتكنولوجيا والخدمات أصبحت مضرب مثل في العالم كله.

الشرق ليس غابة، والمجتمعات العربية توّاقة للتقدّم والتنوّر في الإدارة والاقتصاد والتعليم والفكر السياسي.

القوى المتخلفة موجودة وقوية، ولكنها في صراع مع قوى إسلامية عربية تفوقها قوّة وعزيمة. والمسيحيون مهدّدون بالاضطهاد من الظلاميين، إلا أن لهم حلفاء مسلمين في المنطقة مستعدّين لخوض الحرب ضد التخلف حتى النهاية.

محنة المسيحيين في العراق وسورية اليوم هي نموذج مصغر لمحنة المسلمين في المشرق العربي كله. والخطر الذي يتهدّد المسيحيين، جراء نهضة التعصّب والإرهاب، هو خطر يستشعره المسلمون في المنطقة ويعلمون أنه أكبر تهديد لمستقبلهم، بل لوجودهم، في عالم يتقدّم ولا ينتظر من يتوقف أو يرجع إلى الوراء.

الأسطورة التي يجري تظهيرها وترويجها تقول بأن الخطر يقتصر على المسيحيين وحدهم بهدف إغراق الشرق العربي في العتمة، لأن إلغاء الدور المسيحي يعني القضاء على روابط الشرق مع مصادر الحضارة.

إنها أسطورة كاذبة ومضللة بكل أبعادها، ووسيلة مبتذلة من وسائل الاتجار بالسياسة.