هل التعبئة التي يمارسها البطريرك بشارة الراعي لانتخاب رئيس للجمهورية يمكن أن تصِل إلى حد ترشّحه شخصياً إلى الرئاسة الأولى لوضع الجميع أمام الأمر الواقع؟ وماذا سيكون موقف العماد ميشال عون في هذه الحال، واستطراداً «حزب الله» الذي لم «يهضم» مواقف البطريرك الأخيرة؟ وماذا عن 14 آذار أيضاً؟
لم يسبق أن بَدا الراعي بهذه العصبية منذ اعتلائه السدة البطريركية، وكأنّ الانتخابات الرئاسية حوّلته إلى شخص آخر مختلف تماماً. فتخلى عن ديبلوماسيته الفائقة، كما تخلى عن سياسة تدوير الزوايا والوقوف على مسافة واحدة من الجميع إلى درجة أنّ انتقاداته بدأت تخرج من غرَف بكركي إلى الإعلام، حيث لم يتردد في اتهام النواب الذين قاطعوا جلسات انتخاب الرئيس بمخالفتهم الدستور.
ويجب الإقرار أيضاً بأنّ زيارته إلى الأراضي المقدسة قد فعلت فعلها بجعل مواقفه أكثر جذرية وتشدداً على أثر الحملة المغرضة التي شنّت عليه، الأمر الذي جعله يتمسّك بالزيارة وكل ما قيل فيها، لأنّ أي تراجع يرتد على موقع بكركي ودورها، هذا الدور تحديداً الذي كان وراء التحوّل في لهجة البطريرك، خصوصاً بعد الجهود التي وضعها منذ انتخابه على مستويين:
أوّلاً، على مستوى قانون الانتخابات: لم يتوقع الراعي أن يكون هدف العماد ميشال عون تسجيل النقاط على الدكتور سمير جعجع، بدلاً من أن يكون تحسين التمثيل المسيحي، كما لم يتوقع بألّا تثمر جهوده في الاتفاق على قانون مشترك يشكل الأرضية للتفاهم مع الشريك في الوطن.
ثانياً، على مستوى الانتخابات الرئاسية: تفاجأ الراعي أنّ الحملة التي بدأها قبل أكثر من عام على هذه الانتخابات والقائمة على حتمية تجنّب الفراغ لم تؤد إلى أيّ نتيجة، ما دفعه إلى تأييد التمديد في رسالة تعبّر عن موقف، لا قناعة ولا حتى رغبة في حصوله، بأنه على استعداد لاتخاذ مواقف قُصووية منعاً لتفريغ الموقع المسيحي الأول في الجمهورية.
ويجب الإقرار أيضاً أنّ الحملة التي قادها البطريرك رئاسياً بدءاً من الاجتماعات الرباعية وصولاً إلى ما صدر عن هذه اللقاءات رسّخت في أذهان الرأي العام قناعة بضرورة انتخاب رئيس مسيحي تمثيلي. ولكن صدمة البطريرك، على غرار قانون الانتخاب، تمثلت بأنّ العماد عون تعامل مع هذه الانتخابات على قاعدة: أنا أو الفراغ، واضعاً مسؤولية تعطيل النصاب على المسيحيين وحرمانهم من لبننة الاستحقاق وفرصة انتخاب الرئيس التمثيلي.
ومن الواضح أنّ استياء الراعي مردّه إلى محاولات ضرب صدقية بكركي وتظهيرها بأنها فاقدة للتأثير في القضايا الوطنية المتصلة بتحسين التمثيل المسيحي نيابياً ورئاسياً، خصوصاً أنّ كل الجهود التي وضعها تنعكس على مجمل المسيحيين بعيداً عن أيّ فئوية أو غرضية سياسية. وكلّ مَن واكب مواكبة البطريرك للاستحقاق الرئاسي لَمس لمس اليد مدى الأهمية التي أولاها لهذه المعركة التي خاضها وكأنها أم المعارك، وهي فعلاً كذلك لأنّ تغييب المسيحيين عن الرئاسة الأولى يعني إخراجهم من المعادلة الميثاقية.
وحيال كل ما تقدم، وأمام استحالة انتخاب رئيس في ظل المعطيات الداخلية والخارجية نفسها لجهة تمسّك عون بفرض انتخابه على الجميع أو استمرار الفراغ، ولناحية غياب الضغط الخارجي الجدي، هل يلجأ الراعي إلى خطوة غير مسبوقة رئاسياً، لأنه نيابياً هناك واقعة النائب الأب سمعان الدويهي، وذلك عبر ترشّحه شخصياً إلى رئاسة الجمهورية؟
لا يوجد لغاية اللحظة أيّ مؤشر يدلّ على نيّته الترشّح، إنما المزيد من الإلحاح، من قبل الراعي، على تقصير مرحلة الفراغ. ولكن ماذا لو اصطدمت كل هذه المساعي بالجدار المسدود، فهل سيضع الجميع أمام الأمر الواقع؟ من يعرف الراعي يعلم جيداً أنه لا يتردد في الذهاب إلى النهاية في الأهداف الوطنية التي يضعها، وبالتالي لا يجب استبعاد خطوة ترشّحه التي إن حصلت يكون الهدف منها الآتي:
أ- خَلط الأوراق بالشكل الذي يحرج فيه الجميع من 8 إلى 14 آذار، بالإضافة الى الوسطيّين، فهل يتحمّل عون مواصلة تعطيل النصاب ونقل المواجهة مع بكركي؟ وهل «حزب الله» يواصل التلطّي بعون، أم يفترق عنه «حبيّاً» تلافياً لتحويل الانتخابات الرئاسية إلى مواجهة مسيحية-شيعية؟ وهل يدعم النائب وليد جنبلاط هذه الخطوة انسجاماً مع مواقفه المتقاطعة مع بكركي منذ العام 2000؟ وهل تبارك 14 آذار ترشّح الراعي بعدما وضعت أمام معادلة مستحيلة يشكّل انتخاب الراعي أفضل مخرج من هذا الواقع؟
ب- إخراج المأزق الرئاسي من الفراغ المتمادي من خلال ترشّح شخصية يصعب الهروب من انتخابها.
ج- إعادة الاعتبار إلى موقع رئاسة الجمهورية المسيحي إلى درجة ترشّح أبرز رمزية دينية تاريخية للموارنة في تعبير واضح عن أهمية موقع الرئاسة الأولى، ومدى التكامل بين بكركي وبعبدا، والخشية من أيّ إضعاف يطال الجانب الزمني للمسيحيين الذي لا بد من أن ينعكس مع الوقت على الجانب الروحي.
د- وضع الترشيح في خانة الخطوة الاستثنائية الرامية إلى تقصير مرحلة الفراغ، وإفهام البعض أنّ مصير المسيحيين لا يمكن أن يكون رهن طموحاتهم الشخصية، وإدخال تعديلات على الدستور تتصِل حصراً بآلية انتخاب رئيس الجمهورية بالشكل الذي تقفل فيه الطريق نهائياً أمام التعطيل وعدم الانتخاب.
فلن يكون ترشّح البطريرك الراعي، لو حصل، طمعاً بسلطة زمنية زائلة، إنما يرمي إلى إنقاذ المسيحيين في مرحلة مصيرية، خصوصاً أن بكركي التي ناضلت على مدى قرون دفاعاً عن كنيسة وشعب حر وصولاً إلى إنشاء وطن يشكّل المظلة والحماية للأمة المارونية، لن تسمح بانهيار لبنان الذي يدخل في صميم وجدان الكنيسة ويجسّد معنى وجود الموارنة ورسالتهم، لأنّ انهياره يعني فقدان الموارنة قضيتهم في إنجاح تجربة التعددية الدينية-السياسية وتحوّلهم إلى أمة في الانتشار من دون هدف ووطن.