أقلّ ما يمكن قوله، بعد الحاصل، والمفتوح على احتمالات شتى، في العراق اليوم، إن «نهاية الإسلام السياسي» التي زفّت إلينا قبل عام من تاريخه، من بوابة مصر، كانت واحدة من تلك المقولات التفاؤلية الخائبة التي لا تسندها البنى والوقائع بما يكفي من رصيد. فالنكبة التي مني بها «الإخوان المسلمون» في مصر لم تمنع لا الجناح الدستوري الشعبوي من الحركة، ممثلاً بـ«حزب العدالة والتنمية» من تجديد هيمنته السياسية في تركيا، ولا هي منعت الجناح «الجهادي» من الحركة الإسلامية من الاستفادة القصوى مما يتيحه له المجال السوري – العراقي، وصولاً إلى الوثبة الأخيرة بين السنة العرب في العراق، والتدهور السريع الذي تعيشه أرض السواد باتجاه التصادم المذهبي الدموي العاري.
وإذا كان المشهد الراهن يختلف كلياً عن النموذج الذي تخيله الولي الفقيه الإيراني يوم استبشر ولادة «شرق أوسط إسلامي» من إيران إلى تونس، في إثر الانتفاضات الشعبية الربيعية العربية، فليس ذلك مردّه أن هذا الشرق يتطوّر في الاتجاه «الديموقراطي الليبرالي»، بل لأن الحركات الإسلامية تتخذ من التصادم المذهبي والإثني نفسه محرّكاً حيوياً لها، وهذا يسري على «داعش» و«النصرة» و«الجبهة الإسلامية» في سوريا، لكنه يسري أيضاً على «حزب الله» والتشكيلات الإسلامية الشيعية العراقية، وإن يكن لكل خصوصيته في هذا المجال. ليس هذا الأمر بكليّ الجدّة طبعاً، فمنذ الحركات الصحوية والإحيائية في القرن الثامن عشر في شبه القارة الهندية وشبه الجزيرة العربية، والتصادم المذهبي يلعب دوراً إحيائياً بامتياز للحركات والتشكيلات المعنية بـ«إعادة تحكيم الشريعة»، والتي تصرّ في الوقت نفسه على أنها تتخطى الانقسامات الكلامية والفقهية التقليدية. بعد ذلك، ومع تبلور وتشكّل الحركة الإسلامية الحديثة أو «الإسلام السياسي» في القرن العشرين، شهدنا ضمنها نزعات تؤسس على هذا التحول من الدين الى الأيديولوجيا الدينية ما يساعد على التقريب بين المذاهب، ونزعات تجذّر بالضدّ من ذلك الصراع المذهبي، وتحديداً السنّي – الشيعي، وتحوّله إلى محرّك أساسي للصراع بين الحق والباطل في هذه الدنيا. لكن النقلة النوعية في هذا المجال تمثّلت بالثورة الإسلامية في إيران. من جهة، وعد بإطلاق أوسع حالة أممية إسلامية عابرة للمذاهب والقوميات، ومن جهة ثانية، تصليب عود ما هو قومي ومذهبي وتقويته بسياسات مهدوية ذات مرمى أمبراطوري.
كانت الثورة الإيرانية حبلى بهذين النقيضين، وتكفّل صدّام حسين ثنيها عن أي تردّد في هذا المجال، بحيث تعطي الأولوية للتصلّب القومي – المذهبي على الحالة الأممية الإسلامية، وبحيث صار ينظر للبعثي صدام حسين على أنه رمز لطائفة في مواجهة أخرى، ولأمة قومية في مواجهة أمة قومية أخرى في الوقت نفسه. وما نراه اليوم من اختلاط حابل أبو بكر البغدادي بنابل صدام حسين التكريتي إنما هو مواصلة للحرب العراقية – الإيرانية بوسائل أخرى، وفي سياق آخر، يشهد انهيار مجتمعات قبل انهيار أنظمتها، وتتسابق فيه الأقوام المذهبية إلى التصادم الدموي العاري.
في بداية الثمانينات، تأمن غطاء عربي غربي لصدام حسين في حربه مع إيران. كان الصدام بين البلدين قومياً ومذهبياً في وقت واحد، ولم يكن من الممكن حذف التناقض الإيديولوجي بين «تقدّمية البعث» و«رجعية نظام الملالي». اليوم، ما زال صدام حسين رمزاً له شأنه في القومية العربية السنية ضد حالة الهيمنة الفئوية التي يتربع فوقها نوري المالكي، لكن طبيعة الصراع بحد ذاته تغيّرت. بدلاً من أن يكون صراعاً قومياً شوفينياً بين العرب والفرس، أو صراعاً أيديولوجياً بين التقدميين العلمانيين والخمينيين الثيوقراطيين، أو حتى صراعاً مذهبياً تقليدياً بين السنة والشيعة لا يلبث أن يلجم نفسه بنفسه، فقد حوّلتنا هذه الوضعية المتمثلة بسقوط البعث في العراق وعدم سقوطه في سوريا، وباستبدال هيمنة طائفية بأخرى في العراق وتحولها إلى هيمنة بشروط الحرب الأهلية في سوريا، إلى ما يشبه النقلة النوعية من صراع «بين مذهبين»، إلى صراع بين «عرقين بيولوجيين» متخيّلين، تحرّك أحدهما رؤية «ترويضية» للآخر، وتحرّك ثانيهما رؤية «إبادية» للمخالف له، في استعادة كارثية للكوابيس الترويضية والإبادية التي دمّرت شعوباً وأمماً في القرن الماضي.
قد يأتي ما يكسر حدّة هذا المشهد في الآتي من الأيام، وقد يأتي ما يعود فيجذّره. في الحالتين سنكون أمام حركات إسلامية تتخذ من أخدود الانقسام المذهبي محرّكاً حيوياً سواء لحروب مواقعها، أو لشهواتها الدموية المتدرّجة بين الترويضية والإبادية للمخالفين. في الحالتين، سنرى شريحة بعثية في كل من الفطيرتين المذهبيتين، واحدة باسم بشار الأسد والثانية باسم عزت ابراهيم الدوري. في الحالتين أيضاً تنهش حيوية هذه الحركات ما بقي في مجتمعاتنا من حيوية.