يصعب على اللبنانيين تصوّر بلدهم من دون رئيس للجمهورية. المؤسف أنّهم سيتعوّدون، مع مرور الوقت، على الفكرة. سيوجد من يعوّدهم على الفكرة وعلى تقبل واقع جديد يرفضه معظمهم. يتمثّل هذا الواقع في وجود ميليشيا مذهبية مسلّحة في البلد. تمتلك الميليشيا من القوة ما يسمح لها بالعمل في الداخل وخارج الأراضي اللبنانية في آن.
هذه الميليشيا اسمها «حزب الله» وهي تتلقّى تعليمات من طهران تحدّد الدور الذي يفترض أن تلعبه انطلاقا من لبنان وذلك بغض النظر عمّا يحلّ بالبلد واهله. هذه الميليشيا ملتزمة كلّيا الأجندة الإيرانية. دورها يتجاوز بكلّ بساطة الأراضي اللبنانية.
من يحتاج إلى دليل على ذلك لا يكتفي بالإشارة إلى ما يقوم به «حزب الله» في سوريا دعما للنظام فيها من منطلق طائفي بحت. يفترض في من يسعى إلى فهم ما يقوم به «حزب الله» إلى استيعاب الدور الدور الذي يلعبه في اليمن وفي البحرين وفي العراق نفسه. كذلك، يفترض السعي إلى دراسة ما يقوم به «حزب الله» في فلسطين دعما لـ«حماس» التي أرسل اليها أسلحة عبر الأراضي المصرية في عهد الرئيس السابق حسني مبارك وربّما بعد سقوطه. يفترض أيضا البحث في دور «حزب الله» في السودان والشبكات التي أقامها هناك…في الحديقة الخلفية لمصر.
الخلاصة أنّ «حزب الله» الذي يعتبر في النهاية لواء في «الحرس الثوري» الإيراني، عناصره لبنانية، صار أكبر بكثير من لبنان. هناك في الوقت الحاضر دولة اسمها دولة «حزب الله» وهناك الدويلة اللبنانية. اختار الحزب تعطيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية. بات الحزب يتحكّم باللعبة الديموقراطية والبرلمانية في لبنان. جعل اللعبة أبعد ما تكون عن الديموقراطية. وضع دفتر شروطه لإنتخاب رئيس جديد خلفا للرئيس ميشال سليمان. يريد رئيسا في خدمة مشروعه.
هل يستطيع لبنان التعاطي مع هذه الظاهرة والتكيّف معها؟. هذا هو السؤال الكبير الذي يطرح نفسه على اللبنانيين. هذا السؤال بات أكبر من المشكلة المطروحة المتمثّلة في انتخاب رئيس جديد للجمهورية يؤكّد «حزب الله» أن عليه امتلاك مواصفات معيّنة. على رأس هذه المواصفات التنكّر لكل ما له علاقة بالسيادة اللبنانية عبر الإعتراف بأنّ سلاح «حزب الله»، الميليشيوي والمذهبي، سلاح شرعي.
الأهمّ من ذلك كلّه، أنّ على رئيس الجمهورية، المسيحي الماروني، تغطية مشاركة «حزب الله» في عملية ذبح الشعب السوري المستمرّة منذ ثلاث سنوات وبضعة أشهر، أي منذ اندلاع الثورة السورية في آذار . عليه تغطية المجزرة التي يتعرّض لها الشعب السوري باسم «المقاومة» و«الممانعة» وباسم صيغة «الشعب والجيش والمقاومة» التي عفا عنها الزمن. إنّها الصيغة التي تستخدم في عملية اذلال الشعب اللبناني ومنعه من أن يكون لديه رئيس للجمهورية.
ما يمارسه «حزب الله» هو الجانب المظلم في ما يعيشه لبنان يوميا. لكنّ لبنان بمعظمه ما زال، في المقابل، مؤمنا بثقافة الحياة. ما زال لبنان يشهد مقاومة لعملية السيطرة عليه والتحكّم بقراره. كانت حكومة الرئيس تمّام سلام جزءا من هذه المقاومة. يكفي أنّها خلّصت اللبنانيين من حكومة «حزب الله» التي كان على رأسها نائب سنّي من طرابلس اسمه نجيب ميقاتي معروف من أوصله إلى مجلس النوّاب.
صحيح أن عدد الوزراء المعقولين في حكومة تمّام سلام، أي الوزراء الذين يستطيع اللبناني رفع رأسه بهم، لا يزال محدودا، لكنّ الصحيح أيضا أنّ المقاومة مستمرّة وأنّ اللبنانيين لن يرضخوا للذلّ.
ما يدفع إلى التمسك بالأمل في لبنان، أنّ ايران نفسها التي دفعت «حزب الله» إلى التدخل في سوريا، بدأت تعاني من اللعبة التي مارستها طويلا. إرتدّت اللعبة عليها في العراق. فعندما ألغت ايران الحدود بين لبنان وسوريا وجعلت الرابط المذهبي بين بعض الشيعة في لبنان ممثلين بـ«حزب الله» وبعض العلويين في سوريا ممثّلين بالنظام، فوق كلّ اعتبار آخر، بما في ذلك الحدود بين بلدين مستقلين، لم تكن تحسب أن المفاجأة ستأتي من العراق وسوريا.
هناك أيضا في العراق وسوريا من ألغى الحدود بين البلدين. حصل ذلك من زاوية مذهبية. من يراهن على الرابط الشيعي ـ العلوي، عليه أن يتحمّل الرابط السنّي ـ السنّي.
إنها لعبة في غاية الخطورة، لعبة تتجاوز «حزب الله» ومن خلفه ايران.
الأكيد أن دور «حزب الله» صار أكبر بكثير من لبنان. لكنّ اللعبة المتمثلة في إثارة الغرائز المذهبية في المنطقة لا يمكن ضبطها. لا يمكن حتّى لإيران التحكّم بهذه اللعبة. فمجموعة ارهابية مثل «داعش» خلقها، أصلا، النظام السوري برعاية ايرانية، من أجل تصوير حربه على شعبه بأنّها حرب على الإرهاب، انتهت إلى فشل ذريع في العراق.
لعبت «داعش» دورا في اشعال ثورة في العراق، وذلك من حيث لا يدري الذين دفعوا في اتجاه تكوين هذا التنظيم. من الواضح الآن أن هذه الثورة التي اتخذت طابعا سنّيا اظهرت أن هناك من يقاوم النفوذ الإيراني في العراق أيضا وليس في سوريا ولبنان فقط. إننا باختصار أمام لعبة خطرة ما زالت للأسف الشديد في بدايتها!.
على الرغم من خطورة الوضع وتعقيداته في الشرق الأوسط كلّه حيث لم يعد من رادع للغرائز المذهبية. وعلى الرغم من الحجم الكبير الذي صار يتمتّع به «حزب الله». وعلى الرغم من تفاخر بعض الجهلة بأن ميليشيا مذهبية تتألف من عناصر لبنانية وتأتمر من طهران، باتت مرجعا اقليميا، ثمّة ما يجب أن لا يغيب عن ذهن أيّ عاقل تعوّد على التعلّم من تجارب الماضي القريب. خلاصة هذه التجارب أنّ لا أحد في نهاية المطاف يستطيع لعب دور أكبر من حجمه في منطقة لا أفق فيها لأيّ لعبة ذات طابع طائفي أو مذهبي وفي بلد اسمه لبنان كلّ طائفة فيه أقلّية. ربما كان الرئيس رفيق الحريري، رحمه الله، أفضل من اختصر كلّ ذلك بقوله «ما حدا أكبر من بلده». ثمة حاجة اليوم، أكثر من أيّ وقت، إلى تذكّر هذه العبارة واستعادتها…