إستنفر اللبنانيون في الأسابيع الماضية نصرةً لغزة والموصل.. وتحوّل الإعلام بهذا الإتّجاه وتصاعدت التصريحات والمناشدات حول العدوان على غزة وتهجير المسيحيين من الموصل.. وكُتِبت المذكّرات والمناشدات والإعتراضات.. وعُقدت الإجتماعات الروحية.. وذهبت التصريحات إلى عمق الرّسالات السماوية والخطب الاستراتيجية وأصحاب الاستشعار عن بعد وحديثهم عن الانتصارات.. وعَقَدَ المجلس النيابي جلسة تضامنية تعبّر عن وحدة الموقف اللبناني من العدوان على غزة وجرائم داعش بحق المسيحيين في الموصل.. وأظهر اللبنانيون حالاً من التعافي والقوة والهمّة شعرنا معها بأنّنا نعيش في دولة عُظْمَى وبأحسن حال.. لا أعتقد بأنّني بالغت أو تجنيّت في توصيف ما كنّا نعيشه وما نزال..
كيف نتعامل مع هذا القدر من الإدعاء والإرتجال والهروب إلى الأمام وعملية النكران العميقة لدى اللبنانيين.. مجتمعاً وحكاماً.. والتي أوصلتنا إلى حالٍ لم نعد نعرف فيها ما هو الحقيقي وما هو الوهمي.. اللبنانيون أم أزماتهم.. وما أكثرها.. وأستطيع أن أجزم بأنّ ما يجمع بين اللبنانيين الآن هو أنّهم جميعهم مأزومون وأنّ كلّ مكوّناتنا الوطنية تعاني من التّصدّع أو الإنهيار.. من الطوائف إلى الأحزاب.. إلى مؤسسات الدولة بدون إستثناء.. إلى المناطق والنخب السياسية والثقافية والإبداعية.. إلى الإعلام المتضخم والذي تغذّى لسنوات طويلة من أزمات المنطقة وها هو الآن يأكل نفسه في أزمات لبنان..
إنّ اللبنانيين الآن هم ضحية التكيّف الطويل مع النزاعات المسلّحة والتي أنتجت ثقافة التكيّف مع المحاور وخطوط التّماس والقوى المسلّحة.. اللبنانية وغير اللبنانية.. والتّأقلم مع إنعدام الأمن وإنعدام التّفاعل الإنساني الطبيعي والتأمل وإنعدام الكهرباء والماء وإنعدام وظيفة الدولة وإنعدام فعالية النخبة السياسية.. النيابية والحكومية.. والمؤسسات الأمنية الوطنية المغلوب على أمرها إما بسبب قوى الأمر الواقع اللبنانية وغير اللبنانية أو إنعدام الإمكانيات المادية والتقنية.. هذا التّكيف ليس أقل خطورة من التّكيف مع الإستبداد والملكيّات الجمهورية وانعدام الإحساس بالذات وانعدام الأمل..
إنّ التكّيف هو عملية تواطئ مزدوجة بين الحاكم والمحكوم.. لأنّ الحاكم أيضاً يتكيّف مع الصفات التي يمنحها لنفسه فيصدّقها طالما أنّ الناس تكيّفت معها وصَدَّقَتْها.. إنّها منتهى الغيبوبة والإنفصال عن الواقع لدى الحاكم والمحكوم في آن.. لأنّ ألف باء الوجود الإنساني منذ الإنسان الأول حتى الآن هو التّطوّر والتّجدّد والتّفاعل مع الوجود في المكان والزمان وليس التّأقلم مع ما ينافي وجود الإنسان.. واقعاً وحلماً وطموحاً.. والقدرة على الفهم والإستيعاب وتجديد الأسئلة وعدم الاكتفاء بالاجابات..
تكيّف اللبنانيون مع عدم وجود حكومات دائماً ولشهور طويلة وعدم وجود رؤساء للجمهورية وعدم وجود إمتحانات.. والأسوأ هو تكيّف اللبنانيّين مع عدم حصول 60,000 طالب من أولادهم على نتائج الإمتحانات بحيث يضيع نصف الحاضر وكلّ المستقبل.. كما تَتُوه الخراف بعد أن تاه الرعيان.. تكيّف اللبنانيون مع النزاعات التي تدور في المنطقة وغاب عن ذهنهم بأنّ الحريق الذي يدور في الطوابق السفلى من مبنى المنطقة سيطال قريباً جداً الطبقات العليا.. تكيّف اللبنانيون مع الغلط بالمفاهيم والمعاني واعتمدوا قواعد الخطأ الشائع فأصبحت الحياة السياسية في لبنان قاموساً للأخطاء الشائعة.. وخصوصاً عندما لا نميّز بين السلطة وبين الدولة والمجتمع.. ولا العلاقة بين الله والوطن.. وبين الطائفة والدين.. وبين الضوابط الدستورية والمغانم الدستورية.. وبين توزيع المسؤوليات وتوزيع السلطات.. وبين أهمية الإنصهار الوطني وخطورة الإنكماش الطائفي.. وبين التّبصر إلى الأمام والنظر في المرآة الى الوراء..
إنّ من سوء حظي أنّني شهدت على مدى ما يقارب الأربعين عاماً كلّ أشكال الإنهيار الوطني والإنساني والأخلاقي بكلّ تفاصيله التدميرية والدموية والطائفية والمناطقية ومعه كلّ أشكال الفساد والسطو والإبتزاز والخوّات الخاصة والعامة والإعتداء على الأملاك الخاصة والعامة والسيطرة على موارد الدولة ومرافقها ومعها كلّ أنواع الجيوش.. الشقيقة والصديقة والعدوّة.. والمسلحين ومعها يوميات مئات القتلى في النزاعات الداخلية والإحتلالات والطيران وكلّ أنواع القنابل الفوسفورية والعنقودية والفراغية والاجتياحات والإحتلالات..
رغم كلّ تلك السنوات وأهوالها لم يتزعزع إيماني بلبنان واعتقادي بأنّ ما هو قائم زائل.. وأنّها ظروف عابرة ومؤامرة وساحة صراعات بديلة وحرب الآخرين على أرضنا ووو..
لكن ما شهدته في الأسابيع الماضية جعلني أخاف للمرة الأولى على لبنان عندما اعتبرنا أنفسنا بأننا قادرون على حماية غزة أو مسيحيي العراق ومواجهة داعش وإنقاذ الفشل السياسي السوري والعراقي والفلسطيني.. ونسينا بأن 60,000 من أبنائنا هم بدون شهادات وبدون مستقبل وبتواطؤ من أهاليهم.. إذ ينحرون بكلّ دم بارد ممّن إئتُمِنوا على تعليمهم ومستقبلهم.. حكومةً وبرلمان ومعلمين.. وينحرون بكلّ دم بارد على شاشات التلفزة وبمنتهى الأناقة اللفظية والشكلية.. بمعزل عن أزمة المهجّرين والتهديدات الأمنية وخطورة أن يدخل اللهيب إلى لبنان من كلّ إتجاه..
وهذا ما جعلني أخاف على لبنان وأقول «هَزُلَت.. وإنّ ما نشاهده في لبنان الآن مسخرة وليس مؤامرة»..