في حساب الجلسات، الرقم 9 و10 لا يحرز لأن الرئيس نبيه بري وجّه في استحقاق 2007 و2008 دعوة الى 20 جلسة لانتخاب الرئيس. في حساب الأشهر أيضاً انقضاء شهرين لا يعني الكثير لأن استحقاق 1988 مرّ من أمامه 13 شهراً و13 يوماً، واستحقاق 2007 و2008 عبرت بشرفته ستة أشهر
بات من باب المصادفة المتكررة أن تسبق كل جلسة يدعى اليها مجلس النواب لانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، مبادرة سياسية تتقدّم أولويتها، والجدل المحيط بها، على جلسة الانتخاب وتخطف الانتباه والضجيج، كي تجعل من الاستحقاق ـــ من حيث شاء صاحب المبادرة أو لا، وفي الغالب يشاء حقاً ـــ شأناً ثانوياً.
في الاول من تموز، عشية الجلسة الثامنة للبرلمان، طرح الرئيس ميشال عون مبادرة انتخاب الرئيس من الشعب والعودة الى الاقتراح الارثوذكسي لقانون الانتخاب. في الغداة 2 تموز كان الحديث يدور على المبادرة في مناسبة ان ثمة جلسة دورية لانتخاب الرئيس لن تحصل. كذلك حال الجلسة التاسعة أمس استبقتها قبل خمسة أيام، 18 تموز، مبادرة الرئيس سعد الحريري بالدعوة الى انتخاب الرئيس وتأليف حكومة جديدة وخروج حزب الله من سوريا. شأن مبادرة عون وقد تلقفها للفور تيار المستقبل وحلفاؤه برفضها جملة وتفصيلاً، كذلك مبادرة الحريري نكّل بها خصومه للتو وقطعوا الطريق على أي حوار حولها. أما جلسات الانتخاب التي تصدف قريبة من المبادرات تلك، فتظل تفصيلاً مؤجلاً.
مبادرة الحريريأقرب إلى استنساخ «دوحة لبنانية»
بيد أنه ليس من قبيل المصادفة أيضاً أن صاحبي المبادرتين المتعاقبتين، عون والحريري، هما اللذان يمسكان فعلاً بالاستحقاق الرئاسي ودوافع تعطيل التئام مجلس النواب واكتمال نصابه القانوني لانتخاب الرئيس. كلٌ على طريقته. يتساوى ــ والحال هذه ــ الذي يحضر الى ساحة النجمة من دون أن يريد انتخاب رئيس مع الذي يتغيب عن جلسة الانتخاب لمنع انتخاب الرئيس. الأصح أن مبادرتي عون والحريري تعبّران تماماً عن الظرف الحالي، المحلي والاقليمي، غير الملائم لإنهاء الشغور الرئاسي، بالسعي الى ملء الفراغ بأفكار واقتراحات يعرف الرئيسان السابقان للحكومة أنها لن تبصر النور أبداً من دون تدخّل إقليمي إيجابي حيالها.
بل يشير تزامن المبادرتين في شهر واحد، أولى في الاول من تموز وثانية في 18 منه، الى ملاحظتين على الأقل:
1 ـــ التخاطب غير المباشر بين عون والحريري بعدما كانا بدآ وجهاً لوجه منذ كانون الثاني الفائت في روما ثم في باريس، ثم بواسطة موفدين، حواراً أوحيا بتطوره وتشعب ملفاته في الاشهر التالية قبل المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس وبعدها، وصولاً الى مطلع تموز. منذ مبادرة عون لم يعد يؤتى على ذكر الحوار الدائر بينه وبين رئيس تيار المستقبل، ولا بالتأكيد على نتائجه، من غير أن يتنصّل منه كل منهما.
لم تعد تعبر بهما الحرارة على وفرة ما قيل حتى ذلك الوقت، وتواتر الانطباعات بين إيجابية كان يروي عنها نواب تكتل التغيير والإصلاح، والحذر والتريث اللذين راح يلازمهما نواب تيار المستقبل حيال إمكان تأييد الحريري انتخاب عون رئيساً للجمهورية. منذ الأول من تموز لم يحاول أحدهما التخلص من الآخر بنعي حواره معه، ولم يشأ كذلك استعادة اشتباكه وإياه.
في المقابل، لم يقل الحريري مرة، صراحة أو إيحاءً، أنه يؤيد انتخاب عون. بل استخدم صيغتين مناقضتين لفحوى حوارهما، من شأنهما تنفير الجنرال منه: أولى أن الحريري لا يتدخل في استحقاق يعتبره مسيحياً محضاً يقتضي معه أن يحظى عون بتأييد مسيحيي قوى 14 آذار أولاً لانتخابه. وثانية أنه لا يضع فيتو على أي مرشح، في إشارة واضحة إلى أنه لم يبت تماماً دعم انتخاب محاوره، ويضع في الوقت نفسه ترشيحه وترشيح سواه في منزلة واحدة، ولا يفرّق بينهما. لم يغضب عون علناً من هاتين الصيغتين، إلا أنهما أظهرتا في الواقع أن حوار الرجلين ليس بالتقدّم الذي يصوّره تكتل التغيير والإصلاح.
بعد انقضاء ما يزيد على ثمانية أشهر من حوارهما، لم يُعرف حتى الآن إلى مَ أفضى، وأي تحوّل أحرزه زعيمان ينتمي كلٌ منهما الى مشروع سياسي مناقض للآخر، من غير أن يتوهما أيضاً، الحريري كما عون، أن واحدهما يصلح لأن يكون بروفيلا توافقياً لحل الانقسام الدائر في البلاد منذ عام 2005. يعرفان أكثر أن وصولهما معاً الى الحكم، أو أحدهما، لا يعدو كونه سوى جزء من تسوية سياسية أوسع نطاقاً منهما وتتجاوزهما على السواء. وصل الحريري الى رئاسة الحكومة عام 2009 ثمرة الحوار السوري ـــ السعودي، وأي حظ محتمل لوصول عون الى الرئاسة لا يسعه سوى أن يكون صنيعة تسوية مماثلة.
بل لعلّ المفارقة أن أياً من الرجلين لا يملك الإتيان بالآخر إلى رأس هرم السلطة. لا الحريري قادر على إيصال عون إلى قصر بعبدا، ولا عون بدوره قادر على تعبيد طريق الحريري إلى السرايا.
2 ـــ مقدار ما افتقرت مبادرة عون الى أسباب واقعية، سياسية ودستورية في آن واحد، كي تبصر النور، كذلك مبادرة الحريري تحمل أفكاراً أثقل وطأة من قدرات صاحبها الذي لا يقوى حتماً على تحقيقها لمجرد أنه الذي أطلقها. بل تبدو البنود الستة في مبادرته أقرب الى استنساخ «دوحة لبنانية» على صورة اتفاق الدوحة الذي تولّت قطر تخريجه. تفتقر مبادرة الحريري إلى كل ظروف تسوية 2008، والى الغطاء الإقليمي والدولي الذي أحاط بتلك. وقد لا تكون مثيرة للعجب أوجه الشبه بين بنود اتفاق 2008 ومبادرة 2014، كأن أزمة البلاد واقعة حصراً في البنود تلك طبقاً لما تظهره المقارنة بين ما كان عليه شغور 2007 حتى عشية أحداث 7 أيار 2008، وما هو عليه اليوم شغور 2014:
ـــ تطالب مبادرة الحريري بانتخاب رئيس جديد يخرج البلاد من الفراغ، من دون الإيحاء بمرشح من قوى 14 آذار، أو بمرشح يحمل برنامج هذا الفريق، أو باستمرار دعمه المعلن ترشيح رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع. فإذاً هو يطالب برئيس تسوية مشابه لما عناه اتفاق الدوحة بتسمية العماد ميشال سليمان.
ـــ تطلب حكومة مشابهة للحكومة الحالية يتمثل فيها فريقا 8 و14 آذار على صورة الحكومة التي رسم اتفاق الدوحة ملامحها، وترأسها الرئيس فؤاد السنيورة حينذاك على أنها حكومة وحدة وطنية. وهو ما تعنيه، بقليل من الجدية، حكومة الرئيس تمام سلام. تجمع الفريقين من غير أن يصفاها بحكومة وحدة وطنية.
ـــ تطلب أيضاً خروج حزب الله من سوريا، الوجه الآخر ــ بل المكمّل ــ لمطالبته الحزب بالتخلي عن سلاحه. لا يعني تطور الموقف، وهو نفسه يراوح مكانه، سوى أن سلاح حزب الله أصبح أثقل عبئاً على التوازنات الوطنية الداخلية، وعلى قدرة هذه على احتمال دوره ووزنه العسكري والأمني قبل السياسي. بعدما كان سلاحاً داخلياً استخدم في أحداث 7 أيار 2008، عزّز الحريري وتيار المستقبل حجة رفضهما بالقول إن السلاح نفسه بات اليوم إقليمياً يُستخدم بتهور في نزاعات محاور المنطقة، وأكبر من قدرات لبنان على اتقاء تداعياتها، وأكثر خطورة على توازناته الداخلية واستقراره، إذ يصبح حزب الله هدفاً للاشتباكات الإقليمية ـــ وقد بات طرفاً رئيسياً فيها ـــ وسبباً لانتقالها إلى الداخل اللبناني حتى.
ـــ تطلب كذلك إجراء الانتخابات النيابية في موعدها القانوني، شأن ما فعل اتفاق الدوحة الذي أنجز قانوناً للانتخاب لا يزال نفسه نافذاً برسم الاستحقاق الوشيك.
في ظلّ شغور طويل الأمد، تحضر مبادرات قصيرة النَفَس ليس إلا.