ليست جديدة عودة الرئيس ميشال عون الى المشروع الارثوذكسي لقانون الانتخاب بغية تحقيق المناصفة الحقة. الا انها اقرب الى المفاجأة مناداته بانتخاب رئيس للجمهورية من الشعب لهدف آني هو انتخاب الرئيس ليس الا. كأن المشكلة في الانتخاب وليس في صلاحيات الرئيس ودوره
ادخلت مبادرة الرئيس ميشال عون امس انتخابات رئاسة الجمهورية في قدر جديد. يمدّد عمر الشغور، ولا يقود حتماً الى انتخاب وشيك للرئيس الجديد. الا انه لا يمنح المبادرة بالضرورة فرصة ابصار النور. على غرار شخصيته الجدلية ومواقفه الصادمة ومفاجآته المتلاحقة، ستجد المبادرة مَن يطريها، ومَن يتحامل عليها، ومَن يرفضها فوراً، من غير ان تتسبب بخلط الأوراق والترشيحات المعلنة او الاخلال بتوازن القوى في مجلس النواب.
في بساطة، قفز عون فوق المأزق الذي تتخبط فيه انتخابات الرئاسة في سبع جلسات مرت، وتجاهل مسار التفاوض الدائر بينه وبين الرئيس سعد الحريري على الاستحقاق، وذهب الى خيار غير مألوف لا يرافق في الغالب الاستحقاق هو طلب تعديل الدستور بغية ايجاد آلية مختلفة لانتخاب الرئيس، ناعياً ضمناً الآلية التي ترعاها المادة 49 لانتخاب رئيس الجمهورية.
على أن مبادرة رئيس تكتل التغيير والاصلاح تشير الى بضعة معطيات:
أولها، انها ترى في الآلية المنصوص عليها في المادة 49 حجر عثرة في طريق انتخاب الرئيس بسبب انقسام مجلس النواب بين فريقي 8 و14 آذار، وفقدان كل منهما الاكثرية النيابية العادية (النصف +1)، وتبعاً لذلك الاكثرية الموصوفة (الثلثان) للسيطرة على الاستحقاق، وانتخاب اي منهما الرئيس الذي يرشحه باسم الفريق الذي ينتمي اليه. الامر الذي لم يسبق ان خبرته مرة الاستحقاقات الرئاسية المتعاقبة، ولم يكن في اي من برلمانات انتخاب الرئيس اكثرية طاغية ــــ ما خلا استثناء استحقاق 1964 ــــ تمكنها من القبض على الاستحقاق بكليته بمفردها. الا انها ابرمت تفاهمات ضمنية كانت تحملها دائما على الذهاب الى جلسة الانتخاب، والاقتراع لمرشح او اكثر.
بيد ان مبادرة عون اوحت بأن تعثر الانتخاب يكمن في المادة الدستورية، لا في موازين القوى والمناخات المذهبية المختبئة وراءها، التي لا تكتفي بتعطيل جلسة الانتخاب، بل ايضاً بالحؤول دون انعقاد مجلس النواب، ودون انبثاق اكثرية واقلية في مجلس الوزراء تحت طائلة التعطيل. بدت المبادرة بذلك تتوخى حلا جزئيا لمشكلة كلية.
لعل جانباً من مأزق تعطيل الاستحقاق عبّر عنه عون في اللقاء الذي جمعه في 16 حزيران مع البطريرك مار بشارة بطرس الراعي وعدد من المطارنة في بكركي، تناول الاستحقاق ودوافع مقاطعة جلسات الانتخاب، واصرار البطريرك على انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
عون للراعي: أنزل
اذا سحبتَ ترشيح حلو، فردّ البطريرك: إنزل واحصل على 60 صوتاً، وأتكفل بالباقي
قال عون انه يشارك في جلسة الانتخاب اذا تمكن الراعي من سحب ترشيح النائب هنري حلو. ردّ البطريرك بحجة معاكسة: إنزل الى الجلسة واحصل على 60 صوتا، وانا اتكفل بالباقي.
فاذا الرجلان امام مأزق آخر ناجم عن ضمانتين، قد تكونان الأسوأ، لان ايا منهما لا يسعه الايفاء بها ووضعها في يده: لا البطريرك قادر على سحب ترشيح حلو فيما القرار للنائب وليد جنبلاط وحده، ولا الجنرال يثق بأن مشاركته في جلسة يلتئم ثلثاها تبقي على الاصوات الـ60 في جيبه. ما ان تنعقد حتى تتولد حسابات وخيارات مختلفة تماما.
وقد يكون الاصح ان ليس لاحد سوى جنبلاط خلع ترشيح حلو. الا انه بالتأكيد لن يفعل في الوقت الحاضر على الاقل بذريعة افصح عنها هو بالذات، بقوله ان هذا الترشيح لمنع انتخاب عون او رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع.
هكذا تكمن المشكلة في توزّع القوى والائتلافات، لا في المادة 49.
ثانيها، لا يُنظر الى تعديل دستوري ينقل آلية انتخاب رئيس الجمهورية من مجلس النواب الى الشعب، ومن اقتراع سري في دورات متتالية تبعاً لنصاب محدد الى دورتي تأهيل وانتخاب وحصر المنافسة بين مرشحين اثنين، على انه تعديل دستوري «محدود». بل هو تعديل يدخل في صلب القواعد الجوهرية التي ارسيت عليها تسوية الطائف، بتكريس النظام برلمانياً واعادة توزيع الصلاحيات وتحديد معايير ميثاقية وأخرى مرتبطة بالانماء المتوازن والعدالة الاجتماعية، الى انشاء كيانات دستورية مستقلة في ذاتها كمجلس الوزراء.
حتى إبان دستور 1926، والعمر المديد الذي عاشه طوال 64 عاماً، لم يُعَدّ مرة رئاسياً رغم الصلاحيات الواسعة التي وُضِعت بين يدي رئيس الجمهورية المنتخب من مجلس النواب. قيل على مدى هذه السنين ان ثمة افراطاً في وضع الصلاحيات في رئيس للجمهورية يستظل نظاماً برلمانياً لا يمكن محاسبته فيه، بينما يوحي استخدامه الصلاحيات تلك، في الظاهر، كأنه يقود نظاماً رئاسياً عندما يكون الرئيس رئيس السلطة التنفيذية، وقادراً على ارغام رئيس الحكومة على الاستقالة، واقالة الوزير، وحلّ مجلس النواب، والتلاعب بالاعراف.
على نحو مقلوب تستعيد مبادرة عون المشكلة السابقة: انتخاب رئيس من الشعب يفترض اول ما يفترض الذهاب فورا الى نظام رئاسي بصلاحيات رئاسية واسعة، كون الرئيس يستمد شرعيته من الشعب لا من مجلس النواب.
اراد عون احداث ثغرة في الدستور توخى منها ـــــ الى انتخاب الرئيس من الشعب بعد ان تختاره اولا طائفته ــــ مدّه بأوسع اجماع وطني عليه. فاذا الثغرة اقرب الى تقويض مرتكزات اساسية.
غداة تمديد ولايته في تشرين الاول 1995، تعهد الرئيس الياس هراوي تعديلات دستورية ترمي الى ايضاح بعض صلاحيات رئيس الجمهورية، الملتبسة او المشوبة بغموض من بينها المهل المقيّدة. وفي يوم مغادرته ولايته في 24 ايار الماضي، كشف الرئيس ميشال سليمان عن مشروع تعديلات دستورية مماثل بغية توضيح بعض الصلاحيات. على ان ايا من هذين المشروعين لم يعش اكثر من يوم الاعلان عنه.
ثالثها، ان تعديل الدستور لانتخاب الرئيس من الشعب يقتضي ان يتلازم مع اجراءات مماثلة تقع في صلب هدف انتخابه من الشعب، هي ادخال تعديلات جوهرية على صلاحياته الدستورية. لم يشأ عون الاستفاضة في هذا الشق ــــ وقد يكون تجاهله فعلا ــــ الا ان من المتعذر انتخاب رئيس من الشعب مع الابقاء على صلاحياته الدستورية الحالية التي تجعله فاقد الوظيفة والدور الجديين: لا يملك صلاحية تعيين رئيس مجلس الوزراء، بل تسجيل محضر تسمية النواب اياه. يحضر مجلس الوزراء ولا يصوّت فيه. مقيّد بمهل ضيقة لتوقيع قرارات مجلس الوزراء والقوانين التي يقرها مجلس النواب، حتى اذا امتنع عن توقيعها او طلب ردها تصدر للفور من دون حاجة الى ان يمهرها. ليس القائد الفعلي للقوات المسلحة التي تأتمر بمجلس الوزراء. لا يسعه حلّ مجلس النواب عندما يعرقل عمل السلطة الاجرائية، ولا التفاوض من دون موافقة رئيس مجلس الوزراء ومجلس الوزراء. مشتت الصلاحيات في وجهات ثلاث: بعضها القليل محصور به وحده، والبعض الآخر ذهب الى رئيس مجلس الوزراء ومجلس الوزراء. لا يسعه الزام مجلس النواب اتخاذ موقف قاطع من رسالة يتوجه بها الرئيس اليه، فاذا هو يهملها وبالكاد يستمع اليها.