مرة بعد اخرى يتحول موعد جلسة انتخاب الرئيس الى مناسبة لخوض شأن آخر. مذ انقضت المهلة الدستورية، تلاحقت ملفات موازية افضت الى تأجيل الاستحقاق بذريعة التريث: تارة ترقب التفاوض، وطوراً ترحيل الرئاسة الى ما بعد الانتخابات النيابية، وأخيراً انتخاب الرئيس من الشعب
اتاحت الجلسة الثامنة لانتخاب رئيس الجمهورية امس مزيداً من الجدل المستفيض في المبادرة الاخيرة للرئيس ميشال عون، منادياً بتعديل دستوري يمكّن من انتخاب الرئيس من الشعب مباشرة، وقانون انتخاب يحصر بالطوائف اختيار نوابها. اجتذب الشق الأول من المبادرة السجال وبدا اكثر جاذبية. بعض الآراء تناول الجانب الإجرائي في تعديل الدستور فنعى المبادرة للفور، والبعض الآخر اتخذ منها مبرّراً لإطلاق النفير بأن اتفاق الطائف في خطر.
لم تتغير المواقف والمواقع قبالة المبادرة تلك. تحدّث عنها الرئيس نبيه بري من بعيد، واختفت لدى حزب الله، وحاذر الرئيس سعد الحريري التعليق عليها، رغم أن تيار المستقبل هاجمها بعنف. بدورهم مؤيدوها لم يُعطوا الحجج الكافية للدفاع عنها. فإذا مبادرة رئيس تكتل التغيير والاصلاح كعقرب الساعة: تضرب الى اليمين وتضرب الى اليسار. لم تقنع الحلفاء كي ينضموا اليها، واستفزت الخصوم فتألبوا عليها.
إلا انها تنطوي، مع ذلك، على بضع ملاحظات:
أولاها، أن تعذر التئام مجلس النواب في عقد عادي لا يحول دون مناقشته ـــ وهو اليوم في عقد استثنائي ــ تعديلاً للدستور متى توافرت ارادة سياسية قبل ان تكون دستورية في الخوض فيه.
ليست المرة الأولى يجري تعديل دستوري في عقد استثنائي اذا كان لا بد من التذكير بأن مجلس النواب عدّل المادة 49 لتمديد ولاية الرئيس اميل لحود في 2 ايلول 2004، في عقد استثنائي بعيد عن موعد التئام العقد العادي الثاني للمجلس منتصف تشرين الأول. واذا كان لا بد من التذكير أيضاً بأن مجلس النواب اقر التعديلات الدستورية المنبثقة من اتفاق الطائف في جلسة عقدها في 21 آب 1990، في عقد استثنائي آنذاك بعيداً من الموعد الدستوري للعقد العادي، بغية دمجها في متن الدستور. كان البرلمان حينذاك، في عقد استثنائي، ينقل البلاد من دستور الى آخر. بل من جمهورية الى اخرى.
مرتين عُدّل الدستورفي عقد استثنائي:إقرار تعديلات الطائف،والتمديد للحود
اضف ان حق اقتراح تعديل الدستور الذي منحته المادة 76 لرئيس الجمهورية اصبح من ضمن رزمة صلاحيات الرئيس لدى انتقالها بموجب المادة 62 الى مجلس الوزراء مجتمعاً تحت وطأة شغور المنصب. وهو انتقال اضحى مطلقاً عملاً بالآلية التي اقرها مجلس الوزراء الاسبوع الماضي بغية تطبيقه صلاحيات الرئيس. لا تستثني اياً منها، الا انها عالقة في قبضة اي وزير يتحفظ. تالياً فإن القيد الملزم الذي يمنع مجلس النواب من اقتراح تعديل دستوري خارج العقد العادي عملاً بالمادة 77، يجد متنفسه في المادة التي تسبقها، اذ تعطي رئيس الجمهورية حق طلب التعديل من دون تقييده بعقد محدد.
بذلك، وحده التوافق يجعل تعديل الدستور في عقد استثنائي بمبادرة من حكومة الرئيس تمام سلام، بصفتها تمارس صلاحيات رئيس الدولة، قابلاً للحياة. موقف سياسي اكثر منه دستورياً. على ان الجدل الذي احاط بمبادرة عون في اليومين المنصرمين يسقط هذا الاحتمال نهائياً.
ثانيها، لم توحِ المبادرة بأنها رد مباشر على إيصاد ابواب التفاوض بين عون والحريري. لم يقل اي منهما، حتى الآن على الاقل، إنهما بلغا خاتمة تفاوضهما وأخفقا في الاتفاق. ومع أن نواب تيار المستقبل أقل تفاؤلاً به من نواب التيار الوطني الحر، الا ان اياً من الرجلين لم يرسل اشارات جديدة الى الرغبة في الانتقال بالاستحقاق الرئاسي من التريث الى واقع مغاير. لا الحريري اظهر تذمراً من تفاوض لا يزال بلا طائل، ولا عون في وارد تحديد مهلة اخيرة لانتظار محاوره. اما المحيطون بهما فيعكسون موقفين متناقضين: يقول القريبون من الجنرال، في معرض ابراز ايجابية استمرار هذا التفاوض، ان الرئيس الذي سيُنتخب ــــ عندما يُنتخب ــــ سيكون عون فحسب، فيما ينقل قريبون من الحريري من اصدقائه من غير السياسيين قوله انه لا يجد نفسه معنياً باستحقاق اصحابه مسيحيون، مفضّلاً تفادي خوض اي معركة فيه.
وقد لا يكون الحريري بعيداً تماماً عن موقف رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط من الاستحقاق: بترشيحه النائب هنري حلو يتخلص جنبلاط من ترشيحي عون ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع على السواء. وباستمرار تفاوضه مع عون وهو يعلن تأييده لجعجع، يتخلص الحريري منهما معاً ايضاً.
ثالثها، يقترب يوماً بعد آخر استحقاق دستوري داهم آخر هو الانتخابات النيابية المقررة بين 20 ايلول و20 تشرين الثاني، اكثر وطأة من الانتخابات الرئاسية:
ـــ لا مهل سماح في الاستحقاق النيابي شأن الاستحقاق الرئاسي، عندما يتجاوز المهلة الدستورية من دون انتخاب رئيس الجمهورية، لكن من غير ان يفقد آلية انتخابه متأخراً بأن يستعيض عن المادة 73 بالمادة 74.
ـــ لا انتقال فورياً للصلاحيات الى هيئة اخرى على نحو حال حكومة سلام. ما إن تنتهي الولاية يفقد البرلمان شرعيته تماماً، ولا يصح له البقاء دقيقة واحدة، ولا بطبيعة الحال تصريف الاعمال اقتداءً بالحكومة المستقيلة.
على غرار ما أوشك عليه المجلس في 31 ايار 2013 عندما استعجل تمديد ولايته قبل أقل من شهر على نهايتها في 20 حزيران آنذاك، ها هو المجلس الممدد له يواجه الاختبار نفسه تفادياً للوقوع في فراغ حقيقي في المؤسسة والصلاحيات في آن واحد. في اجتماعه الاخير بوزير الداخلية نهاد المشنوق، قال رئيس مجلس النواب ان ليس له سوى التحضّر لإجراء الانتخابات النيابية من ضمن المهلة القانونية وإن في ظل القانون النافذ.
بذلك يبدو عبء الاستحقاق الوشيك ثقيلاً على الأفرقاء جميعاً بلا استثناء. ليس بينهم مَن يريد من الآن تحمّل وزر المطالبة بتمديد الولاية للمرة الثانية. الا ان ليس بينهم مَن هو فعلاً جاهز لخوض انتخابات نيابية جديدة، على الاقل بالنسبة الى طرفين رئيسيين: احدهما الحريري الاكثر تمسكاً ببقائه خارج البلاد، وحزب الله الذي دفع عشرات الآلوف من مقاتليه الى الحرب السورية. اللهم الا اذا نجح الطرفان مجدداً في التعويل على المبرر نفسه الذي ساق البرلمان الى تمديد ولايته قبل اكثر من سنة، وتحجج وقتذاك بأحداث أمنية في طرابلس تحول دون الوصول الى صناديق الاقتراع. فكيف بالمخاوف الامنية والهجمات الارهابية اليوم، الأكثر تبريراً لتكرار المحاولة؟