تحمل مبادرة 14 آذار الرئاسية التي أطلقت بعد المحاولة الحادية عشرة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، دلالات عدة سواء في الشكل أوالمضمون، فمن حيث الشكل أطلقت المبادرة من مجلس النواب، المكان الذي يمكن أن يشكل بداية للحل، بعد أن شكل على مدى أكثر من 100 يوم سببا للفراغ الدستوري المتمادي في البلاد، ناهيك عن الرمزية التي يشكلها المجلس كمؤسسة جامعة لكل اللبنانيين. ومن حيث المضمون فإن المبادرة أتت في ظل توقيت قاتم دوليا ودقيق إقليميا، إذ يعيش المسيحيون في العراق وسوريا يوميا، تحدي الثبات في أرضهم والتغلب على محاولات التهجير التي يتعرضون لها. كما تزامن إطلاق المبادرة مع تحدٍ أمني يعيشه لبنان مع الارهاب، وينعكس سلبا على وضعه الداخلي في ظل فراغ رئاسي مستفحل والذي يمكن أن يؤسس لطروح أخرى، قد تحمل تغييرا في جوهر الشراكة المسيحية الاسلامية التي قام عليها إتفاق الطائف، في حال تحول الفراغ الرئاسي إلى واقع عادي يمكن التعايش معه.
ما يمكن تسجيله على هامش المبادرة أنها سلكت دربا مكّنها من حمل ميزتين، الأولى هي أنها كانت طرحا منفردا لقوى 14 آذار كل على حدة، ثم تدحرجت ككرة ثلج وباتت اليوم تشكل إجماعا لدى كل الفريق تجسد حضوره في مجلس النواب يوم الثلاثاء الماضي، أي أنها بدأت مع طرح رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في حزيران الماضي، حين دعا إلى إيجاد تسوية بعد الفشل المتتالي لجلسات إنتخاب رئيس جديد، ثم تظهرت كمبادرة وطنية طرحها الرئيس سعد الحريري في شهر رمضان الماضي، وتكررت ملامحها لاحقا في خطاب الرئيس فؤاد السنيورة في طرابلس وفي البيانات المتلاحقة لكتلة «المستقبل«.
أما الميزة الثانية للمبادرة فهي أنها حملت معها آلية عمل لتسويقها وشرحها، ومن شأن ذلك أن يشكل دفعا للفريق الآخر لنقاشها بجدية وفتح الابواب الموصدة، خصوصا أنها لم تثر ردود فعل سلبية وقاطعة تجاهها، بل كان هناك رفض»أولي« عبّر عنه فريق قوى 8 آذار فور سماعه بها.
كل ما تقدم يدعو للبحث عن أهمية هذه المبادرة التي يمكن تلخيصها بأن قوى 14 آذار تحاول الإمساك بالعصا من المنتصف، أي أنها تتمسك بجعجع كمرشح لرئاسة الجمهورية، وفي الوقت نفسه تدعو للحوار والانفتاح على الآخر، فماذا يعني ذلك؟
يجيب وزير الدولة للتنمية الادارية نبيل دو فريج على ذلك بالقول لـ«المستقبل«، ان «الفراغ الرئاسي أثبت أن هناك خللا في البلد يزداد يوميا، وبالتالي فالمبادرة هي محاولة للخروج من الازمة الرئاسية«، معتبرا أنه «لا مفر لقوى 8 آذار من الجلوس على الطاولة والبحث عن تسوية كما حصل في المرات الماضية، خصوصا أنهم ينادون بأنهم يريدون حفظ دور المسيحيين في لبنان والعراق وسوريا».
من جهته يلفت عضو كتلة «المستقبل« النائب سمير الجسر لـ«المستقبل«، إلى أن «المبادرة أتت لتكسر حلقة الجمود الحاصلة وتدعو الفريق الآخر للحوار، كما توجهت الى المسيحيين خصوصا للقول إنها حريصة على دورهم، وليست متمسكة بالفراغ الذي له آثار جسيمة على الوضع السياسي والامني في البلاد«.
ويعتبر عضو الكتلة النائب عاطف مجدلاني لـ«المستقبل«، أن «مبادرة 14 آذار جاءت لتقول إنها على استعداد لأن تضع مرشحها جانبا والبحث عن تسوية، والتفاهم على القواسم المشتركة حول شخصية رئيس الجمهورية وقدرته على تأمين الاجماع ورؤيته لإنقاذ لبنان»، كما يشير عضو الكتلة النائب عمار حوري لـ«المستقبل«، إلى أن «قراءة فريق 8 آذار للمبادرة بشكل متأنٍّ يوصله إلى التجاوب معها، وبالتالي لا بد من إعطائه المزيد من الوقت للتمعن بطرحنا».
ما يمكن إستنتاجه مما سبق أن المبادرة ولدت من رحم إستشعار الخطر الذي يدهم الجمهورية، في هذه المرحلة التي تعيشها المنطقة، وبالتالي فانتخاب رئيس للجمهورية يعني تحصين المؤسسات والعباد على حد سواء. هذا الاستنتاج يؤيده دو فريج بالقول:« بعد مرور ما يزيد على ثلاثة أشهر من الفراغ الرئاسي ثبت أن هناك خللا في البلد يزداد يوميا بسبب الفراغ الرئاسي،ناهيك عن الضرر الذي يصيب الدور المسيحي في لبنان، خصوصا في ظل التهديد الذي يعيشه المسيحيون في العراق وسوريا، لأن رئيس الجمهورية في لبنان يمثل الرمز لمسيحيي الشرق ويلعب المسيحيون في لبنان دورا في ترسيخ هذا الوجود في المنطقة، التي تشهد حاليا محاولات (خصوصا في كل من سوريا والعراق) لإيجاد تسوية هناك شبيهة بالطائف اللبناني تحفظ دور المسيحيين هناك كما حصل عندنا، ولذلك فإنتخاب رئيس للجمهورية يعني أنه رئيس لكل اللبنانيين ورمز لمسيحيي الشرق، ولذلك يجب الإسراع في الخروج من هذه الازمة، وما قامت وتقوم به 14 آذار هو إطلاق المبادرات لتفادي الازمات التي عصفت وتعصف بلبنان«.
يلفت دوفريج إلى أن «الرفض كان يأتي دائما من الفريق الآخر والامثلة كثيرة وآخرها بعد الازمة السورية في العام 2011 حيث طالبت 14 آذار بانتشار الجيش اللبناني على الحدود اللبنانية – السورية، لكن قوى 8 آذار رفضت لأنها تريد أن تبقي الحدود «فالتة»، وبعد أحداث عرسال نجدهم يطالبون بإنتشار الجيش على الحدود بعد أن خسرت المؤسسة العسكرية الشهداء ووقوع عدد من جنودها أسرى، واليوم طرحنا مبادرتنا للخروج من الازمة الرئاسية، وأعتقد أنه لا مفر لقوى 8 آذار من الجلوس الى الطاولة والبحث عن تسوية كما حصل في المرات الماضية، خصوصا أنهم ينادون بأنهم يريدون حفظ دور المسيحيين في لبنان والعراق وسوريا«. ويسأل دوفريج «إذا كانت قوى 8 آذار تعتبر مبادرتنا مناورة فليجربونا ويعرفوا مدى جديتنا».
ويعتبر الجسر «أن الجديد الذي حملته مبادرة قوى 14 آذار الرئاسية، هو في إجماع كل مكوناتها على ضرورة النقاش مع الفريق الآخر للوصول إلى تسوية تخرج البلاد من الفراغ الرئاسي، وهذا ما يعطيها الزخم والقيمة، لأننا نعيش حالة جمود والجميع يعترف بالإنقسام السياسي الحاد الحاصل في البلاد، وعدم قدرة أي تحالف على إيصال مرشحه إلى سدة الرئاسة بشكل منفرد، وبالتالي فالمبادرة أتت لتكسر حلقة الجمود الحاصلة وتدعو الفريق الآخر للحوار، كما توجهت المبادرة الى المسيحيين خصوصا للقول، إنها حريصة على دورهم وليست متمسكة بالفراغ الذي له آثار جسيمة على الوضع السياسي والامني في البلاد، لأن الفراغ يعني الفوضى وأعتقد أن المبادرة هي خطوة أساسية ومهمة وإشارة من 14 آذار بأن لديها الحل، مما يحفز قوى 8 آذار على التحرك نحونا».
من جهته يرى مجدلاني أن المبادرة «تحدد الضرورات والظروف التي تسمح بإنقاذ لبنان من الازمة الحاصلة، وتسمح بتخطي الحائط المسدود الذي وضع أمام إنتظام عمل المؤسسات الدستورية وتداول السلطة في لبنان. وبالتالي كان لا بد من خطوة إلى الامام وما قامت به قوى 14 آذار أنها قالت مجتمعة إنها مستعدة للتسوية، على الرغم من أن لديها مرشحها لكن حرصا منها على إنقاذ لبنان وإجراء الاستحقاق الرئاسي، فإنها مستعدة لأن تضع مرشحها جانبا وتعلن إستعدادها للتفاهم على القواسم المشتركة حول شخصية رئيس الجمهورية، وقدرته على تأمين الإجماع ورؤيته لإنقاذ لبنان والحرص على جميع مكوناته، كما أن 14 آذار وضعت آلية لتنفيذ هذه المبادرة أي الاجتماع مع الفريق الآخر للتفاهم على القواسم المشتركة، وبالتالي فهي ليست مجرد شعارات وعناوين فضفاضة، بل محاولة جدية وعملية تجاه 8 آذار للوصول إلى تسوية«.
يضيف:»ما قالته المبادرة هو أن قوى 14 آذار مستعدة لوضع ترشيح جعجع جانبا، والتفاهم حول مرشح تسوية فهل قوى 8 آذار حاضرة للقول لرئيس تكتل التغيير والاصلاح النائب ميشال عون تنحَّ جانباً كي نفتح نقاشا حول مرشح تسوية؟ نحن أعلنا إنفتاحنا على الآخر ونأمل أن يبادلنا بالمثل وأن يلاقينا حزب الله بمنتصف الطريق في طرحنا «.
ويلفت حوري إلى أن «المبادرة الرئاسية تحاول كسر الجدار الذي علا بين قوى 14 و8 آذار حول الملف الرئاسي، وبالتالي فهي تريد النقاش حول مرشح وفاقي، وأي موقف متشنج من قوى 8 آذار هو موقف متسرع، لأن القراءة المتأنية للمبادرة ستوصلهم للتجاوب معها، وهذا ما لمسناه من الموقف العلني للتيار الوطني الحر، ولذلك علينا الإنتظار قليلا لمعرفة موقف 8 آذار النهائي منها، خصوصا أن هناك لجنة ستكون مهمتها الإتصال بالكتل النيابية لتسويق المبادرة ومعرفة ردود الفعل النهائية عليها».