IMLebanon

محطات أساسية في تاريخ لبنان السياسي تروي ملاحم من الخيبات والآمال

محطات أساسية في تاريخ لبنان السياسي تروي ملاحم من الخيبات والآمال

أزمة الجمهورية في نظام معقد يتداخل فيه التعقل والتطرف

وشبح داعش يخيّم مع النصرة على البلاد والعباد

لبنان بلا رأس، ومن دون رئيس للجمهورية.

هكذا يبدو الوطن في الذكرى الثانية والثلاثين لغياب الرئيس الشهيد بشير الجميل.

البلاد تجتاحها الفتنة. الوطن تضربه الأعاصير الأمنية والسياسية، وكل فريق يغني على ليلاه، وليلى بين الأنام عليلة ومريضة. والغناء أحياناً مشوب بالحزن، وغارق في الشؤم.

يقول السياسي الداهية كاظم الخليل، إن بلاداً عرفت حنكة كميل شمعون، ورباطة جأش سليمان فرنجيه، وحكمة بيار الجميل، وصرامة فؤاد شهاب، نادراً ما تكون أبواب الانفرج السياسي موصدة أمامها.

ويتابع: هؤلاء الكبار اختلفوا حيناً، واتفقوا أحياناً، وحلت الدماء مكان الصداقات في بعض المراحل، الا ان لبنان ظل يترنح بين الاخفاق والنجاح، لكنه ظل بين الدهاء والمناورة لبنان الذي لا يموت.

عندما زاره الشيخ أمين الجميل في العام ١٩٨٢ معاتباً، لأن رجالات البلاد الكبار، أحجمت عن ترشيحه لرئاسة الجمهورية، وبايعت شقيقه الشيخ بشير، وجنحت من الاعتدال الى التطرف.

الا ان السياسي العتيق بادره: طوِّل بالك يا شيخ امين. ان البلاد اختارت الموقف الأكثر واقعية، لانقاذها من الأزمات الحادة، ولم يكن عندها خيار بين قوة الموقف والاعتدال، لأنه في احيان كثيرة، يكون الاعتدال مرادفاً للضعف، وتكون القوة حاجة لا غاية!

بعد أسبوعين انتخب مجلس النواب في ثكنة الفياضية الشيخ بشير الجميل رئيساً للجمهورية، ومثل رئيس البرلمان كامل الأسعد دوراً أساسياً في تأمين النصاب وتحقيق الاختيار، لأن عنوان المعركة كان تأمين النصاب لانعقاد المجلس.

يومئذ، ذهب بشير الجميل النهاريا، ومنها الى الأراضي المحتلة، والتقى رئيس الوزراء الاسرائيلي مناحيم بيغن، وحصل الخلاف التاريخي بين قائد القوات اللبنانية ورئيس حكومة الليكود الصهيونية.

بادره بيغن بأنه لم يصل الى رئاسة الجمهورية، لولا الاحتلال الاسرائيلي لقسم من لبنان، وانه يريد منه معاهدة صلح وتفاهم مع الدولة العبرية مقابل خروجها من لبنان. ورد الشيخ بشير: قد تكونون أعطيتموني دعماً سياسياً لأصل الى رئاسة الجمهورية، لكنني وصلت بأصوات السادة النواب اللبنانيين. وأنا لن يكون لي سوى خيار لبناني.

عاد بشير الجميل من اسرائيل، واستدعى النائب الطرابلسي موريس فاضل وتمنى عليه الذهاب الى الرئيس رشيد كرامي لابلاغه أنه سيكون ثاني رئيس وزراء والتأكيد له انه بعد ستة أشهر، سيكون الأفندي الطرابلسي رئيس وزراء لبنان، لأنه قطع وعداً ابّان المعركة بأن أول رئيس حكومة في عهده سيكون النائب سليمان العلي.

في ١٤ أيلول ١٩٨٢، ذهب بشير الجميل الى مكتبه في الاشرفية، واختار فادي فرام ليخلفه في قيادة القوات، لأنه أصبح رئيساً للبنان كله، الا انه اغتيل وهو يغادر مقر حزب الكتائب في الاشرفية، على يد متهم ينسب الى الحزب القومي السوري، وقيل إن سوريا كانت وراء اغتياله.

بعد لك بادر النائب ادمون رزق، في مهرجان كتائبي لوداع الرئيس الجديد، الى ترشيح الشيخ أمين الجميل لرئاسة الجمهوية، فنال تأييد معظم الفئات بمن فيهم الذين عارضوا ترشيح شقيقه بشير، وفي مقدمتهم الرئيس صائب سلام.

حكم الشيخ امين الجميل لبنان ست سنوات، وعقد ١٢ قمة لبنانية – سورية مع الرئيس السوري حافظ الاسد، لكنه، كما يقول، لم يعطِ سوريا كلمة واحدة تجعله يعود عن الموقف اللبناني الجامع والموحد في تحرير لبنان من النفوذ السوري والاسرائيلي. كانت طريق بشير الى بعبدا صعبة، واضطر بادئ الأمر الى معاداة رئيس الجمهورية عند ترشحه للرئاسة، أي الرئيس الياس سركيس ووزير خارجيته فؤاد بطرس، لكنه في نهاية العهد السركيسي ساهم الرجل الآتي من الشبانية في ايصاله الى رئاسة الجمهورية، ومثل مدير مخابرات العهد جوني عبدو في تمتين أواصر الصداقة بين العهد المدبر والعهد الآتي.

الا ان الشيخ امين الجميل لم يعطِ سوريا شيئاً على حساب لبنان، ولذلك، فإنه يرشح نفسه الان للرئاسة، بعدما رشحت ١٤ آذار الدكتور سمير جعجع قائد القوات اللبنانية ٤ مرات، ولم يحصل على ثلثي أصوات النواب، وبقيت المعركة بين استعداده للانسحاب، وتأييد مرشح يتبنى برنامجه من ١٤ آذار، أي الشيخ امين الجميل أو الشيخ بطرس حرب… واستطراداً النائب روبير غانم، وإن لم تتم تسميته.

وتبقى الرئاسة الأولى خاوية. وتواجه هم العثور على رئيس. وليس في الأفق الا الرئيس العماد ميشال عون مرشحاً للرئاسة توافقياً، مؤيداً عملياً من حزب الله ومؤيداً نظرياً من تيار المستقبل، بعد اجتماعه في باريس الى الرئيس سعد الحريري الذي بارك نهجه، لكنه تمنى أن يحرره من سلاح حليفه حزب الله ومتمنياً عليه الحصول على تأييد حلفائه في ١٤ آذار.

ويقول الدكتور سليم سلهب النائب في التيار الوطني الحر ان العداء السياسي عند حلفاء الحريري، أكبر من تسوية سياسية، على ترشيح الرئيس عون مما جعل رئيس تكتل التغيير يقترح جمهورية يختار رئيسها اللبنانيون على دورتين، الأولى يختار خلالها المسيحيون اثنين للتنافس على الرئاسة، على أن يختار اللبنانيون ثانية من معظم الطوائف أحدهما للرئاسة.

كارثة أكبر من كارثة

الا ان التطورات انجلت عن كارثة كبرى أكبر من الكارثة الأولى، اذ برز تنظيم أصولي متطرف، على الساحة، يهدف الى اقتلاع المسيحيين من العراق وسوريا… ومصر. وراح يمارس سياسة قطع الرؤوس، وذبح المواطنين على الهوية ودق أعناق المسيحيين اذا لم يعتنقوا الاسلام.

وهذا ما جعل البطاركة المسيحيين يجتمعون في بكركي، ويدعون الى وقف الابادة المسيحية، والتوجه الى واشنطن لمطالبة الولايات المتحدة بالتحرك الفعلي لمواجهة داعش وأخواتها، وتنظيم النصرة وأبناء عمومتها.

ويقول مربٍّ كبير إن أميركا وأوروبا اتخذتا موقفاً متخاذلاً من أخطر موضوع يواجه الأقليات في الشرق، اذ مارست كل منهما سياسة غض الطرْف عما يجري، ولا سيما بعد خطف العسكريين في عرسال وذبح جنديين وارسالهما الى ذويهما.

بيد ان اميركا لم تتحرك عملياً، الا بعد ذبح اثنين من الأميركيين، والهجوم على اربيل عاصمة كردستان، اذ تأكد لها ان داعش تنظيم حاقد، متخلف، همه استئصال المسيحيين من الشرق…

الا ان ذهاب وفد البطاركة المسيحيين الى أميركا، يتقدمه الكاردينال الراعي، جعل دول الغرب، تقرر القضاء على داعش او على دورها المتزمت، في ابادة من ليس من جهتها.

قرصنة مذهبية

ويرى الوزير سليم الصايغ العائد من اوروبا، انه لمس في معظم الاقطار الاوروبية، استهجاناً بالغاً، للاغضاء الذي مارسه ويمارسه الاميركيون والاوروبيون للقرصنة المذهبية، للداعشيين، ويقول ان الرئيس الشيخ امين الجميل يمارس بعقل وفكر سياسة تكثيف النوعية والاعتدال والتعددية، لاجتثاث الاحقاد الطائفية.

ويقول مرجع سياسي بارز للزميلة البارزة في النهار السيدة سابين عويس ان مشكلة البلاد لم تعد ازمة نظام غير قابل للحكم، وتكوين السلطة وانتاج حياة سياسية. ويأسف المرجع لما آلت اليه نظرة الغرب الى لبنان، والنموذج الدقيق والخطير الذي يؤخذ عما يسود البلاد الآن.

يعتقد المرجع ان لبنان، بلد راق، في شكل نظامه لكنه متخلّف في الممارسة، وهذه احدى عورات النظام الذي يشهد تراكمات ليست كافية لحصول التبديل المطلوب.

ويعرب المرجع ذاته عن المه، لانه اصغى الى سفير غربي، عرض امامه اوضاع المنطقة، وقال له ان الاوضاع في العراق وسوريا تسير نحو النموذج اللبناني. وعندما استفسر منه عما يعنيه اجابه انه يقصد نموذج ضعف الحكم والسلطة والارتهان الى التدخل الخارجي.

ويتابع المرجع: لقد ازعجني ان يتحول لبنان من نموذج للديمقراطية والتعايش، الى نموذج لوصف حالات الضعف والتراجع.

ولا يوافق المرجع المذكور على مقولة ان انتخاب رئيس جديد للجمهورية هو الحل للازمة. ويضيف: صحيح ان الانتخاب يجب ان يكون اولوية ضمن رزمة الحلول المطلوبة لمواجهة الازمة القائمة لكن حتى انتخاب رئيس لن يمثل حلاً لنظام مكربج. وعلى الرغم من ذلك، لا يرى المرجع في الافق ما يؤشر الى احتمال انتخاب رئيس قبل الاستحقاق النيابي. ويذهب الى القول ان الاولوية الموازية للموضوع الأمني تتمثل بالتمديد للمجلس النيابي ويتحفظ مرجع آخر على التمديد للاستحقاق الرئاسي، باعتبار ان القوى السياسية ستطمئن الى توازناتها الداخلية، وتتفرغ للاستحقاق، لكن المرجع يستبعد حصول انتخابات رئاسية على البارد باستثناء انتخاب الرئيس الراحل شارل حلو، ولا يخفي المرجع المشار اليه، خشيته من التطورات الدراماتيكية للوضع الامني، محذراً من خطورة الشحن المذهبي الرامي الى وضع الطوائف المحمدية في وجه بعضها بعضاً.

ويعتقد الداعشيون ان المرحلة تستدرج لبنان في رأيه، الى حرب اهلية معروف متى تبدأ ومجهول متى تنتهي!!

عودة الى الماضي

كيف كانت تجري الامور في البلاد، في مطلع حقبة الثلاثينات، انطلاقاً من ولاية رئيس الجمهورية يومئذ شارل دباس الذي كانت سياسته تتميز بالحكمة والحرص على مصلحة لبنان. ويصفه المراقبون بأنه برهن على شجاعة وذكاء مصحوبين بعلم واسع ونظافة كف وعدل وتجرد عن كل عرف شخصي.

وباقتراب موعد الانتخابات النيابية، ساور مرشحي محافظة جبل لبنان هم ناجم عن تزعم حبيب باشا السعد رئيس الحكومة قائمة مرشحين ضدهم الامر الذي جعل بعض السياسيين يسعون الى ازاحته عن رئاسة الحكومة.

تألفت في البلاد، بعد ذلك حكومة برئاسة الشيخ بشارة الخوري، وتعيّن موعد الانتخابات في ١٢ حزيران ١٩٢٩، لاختيار ثلاثين نائباً، يضاف اليهم ١٦ نائباً يُعينون بمرسوم حكومي.

اثناء انتخاب النواب، وقع حادثان خطيران احدهما في جبل لبنان حيث ترشح الاخ ضد اخيه اي الامير توفيق ارسلان الذي كان يبرز دائماً في نيابته خصماً للانتداب ولا سيما في معارضته لتصرفات المستشارين والموظفين الفرنسيين، فأسفر الانتخاب عن فشله في الانتخابات.

اما الحادث الثاني فقد وقع في لبنان الشمالي حيث كان التنافس على اشده بين وديع طربيه، مؤيداً من سلطة الانتداب وقبلان فرنجيه مدعوماً من أهالي بلدية زغرتا.

وفي الصباح زحف الزغرتاويون الى طرابلس مركز الاقتراع، من دون ان يأبهوا لمنعهم من قبل رجال الأمن، فأطلق عليهم متطوعو العلويين النار، وعلى رغم سقوط ثلاثة قتلى منهم، فقد دخلوا السرايا وفاز مرشحهم قبلان فرنجيه بالنيابة. وسط مزاعم بأنه كان للسلطة دورها الفعّال في تأليف قوائم الانتخاب، وفي التأثير على الناخبين في جميع المناطق الانتخابية.

أما الحكومة اللبنانية فقد كانت هدفا لحملة صحفية عارمة استمرت أياما تمّ خلالها من قبل مجلس الوزراء تعيين النواب الآخرين اكمالا للعدد القانوني، ولم تبدأ إلاّ بعد جلسة عقدت في مجلس النواب أبدت الحكومة فيها براعة في الدفاع عن موقفها في الانتخاب، مكّنتها من طرح الثقة واحرازها بأكثرية كبيرة.

ومما يروى من وقائع هذه الجلسة انه عندما هوجمت الوزارة من قبل نواب المعارضة، واحتدمت المناقشة قبل طرح الثقة، وقف النائب شبل دموس وتساءل:

كيف نقول لهذه الوزارة ملعونة أنت بين الوزارات، ومباركة ثمرة بطنك الانتخابات.

وقد انتخب رئيسا للمجلس الشيخ محمد الجسر، ونائبا للرئيس يوسف الزين.

وبناء على تكليف من رئيس الجمهورية، ألف الأستاذ إميل إده وزارة أطلق عليها اسم وزارة الانقاذ والاصلاح. وطلبت في بيانها الوزاري سلطة اصدار المراسيم الاشتراعية.

وأثناء مناقشة بيان الحكومة في البرلمان، دار نقاش حاد أسفر عن نزع الثقة بالحكومة، فسقطت في ٣٠ أيلول ١٩٣٠. وكلّف الرئيس شارل دباس الأستاذ اميل اده بتأليف حكومة ثانية. إلاّ أن مخاض التأليف طال، وتألبت المعارضة ضدها، وفي مقدمتهم النواب بشارة الخوري، وهنري فرعون وميشال زكور، فاضطر اميل اده الى العدول عن تأليفها.

في هذه الفترة شغر أحد المقعدين النيابيين للطائفة الدرزية في الشوف، بوفاة الأمير توفيق ارسلان، ففاز به ابنه الأمير مجيد ارسلان، وكان لا يزال في سنّ الفتوّة.

حلّ المجلس

خلال العام ١٩٣١، وقبل ان تنتهي مدة رئاسة الرئيس شارل دباس ببضعة أشهر، بدأت بوادر التنافس على رئاسة الجمهورية بين الأستاذين اميل اده وبشارة الخوري.

وعندما بدا لأولهما ضعف في موقفه على هذا الصعيد، عمد مع أنصاره الى خطة تؤدي الى تخييب منافسه، وهي ترشيح رئيس المجلس الشيخ محمد الجسر لهذه الرئاسة، فرحب الشيخ محمد بهذه الخطة، وإعداداً لنجاحها هيّأ مشروع قانون احصاء عام حاز على موافقة أكثرية نواب المجلس في ظلّ رئاسته، وعلى الرغم من عدم اعطاء هذا الاحصاء الذي أجري في كانون الثاني ١٩٣٢ النتيجة التي توخاها منه، فقد أصرّ على استمرار السير في طريقه لتسنّم سدّة الرئاسة الأولى.

ومما يجدر ذكره ان الطائفة المارونية التي طال انتظارها على حرمانها من هذه الرئاسة، طوال مدة تسلمها من قبل شارل دباس الأرثوذكسي والطائفة المارونية هي الأكثر عددا في لبنان، كان كبار نوابها في المجلس عمدة الشيخ محمد المسلم في ما كان يسعى اليه. منهم النواب: اميل اده والشيخ يوسف الخازن وروكس أبو ناضر وسامي كنعان الخ… ومعهم المطران بولس عقل.

ويروى ان اتصالات نيابية جرت من قبل أصدقاء محمد الجسر لتثنيه عن ترشيح نفسه وأبرزهم كان النائب عن دائرة عكار عبود عبدالرزاق، لكنها باءت بالفشل.

وفي التاسع عشر من أيار ١٩٣٢، دعي الشيخ محمد الجسر الى الاجتماع بالمفوض السامي الفرنسي، فسلمه قرارا يقضي بوقف مفعول الدستور، وحلّ المجلس النيابي، وبتعيين شارل دباس رئيسا للدولة.

قبل هذه الأحداث ببضعة شهور، كان قد توفي بطريرك الطائفة المارونية، وإذ بلغ نعيه المجلس النيابي، عقد جلسة خاصة افتتحها رئيسه الشيخ محمد الجسر بتأبين، ومما قال فيه: كان البطريرك حويك الرجل الذي يتألم للبنان، ويعطف على أبنائه ويعمل على حمايته.

ووافق النواب على تقديم تعزية خطية الى البطريركية باسم الأمة اللبنانية.

وأبّن الفقيد باسم الطائفة الأرثوذكسية في المجلس نوابها: بترو طراد، وشبل دموس، وجبرايل نصار. وأبّنه باسم الطائفة الشيعية النائب فضل الفضل، وباسم الطائفة الدرزية النائب الدكتور جميل تلحوق، رباسم الطائفة السنية النائب محمد الفاخوري.

بعد بضعة أشهر، عيّن المسيو دي مارتيل مفوضا ساميا، فأعاد الحياة الدستورية، وبعد ذلك قدّم شارل دباس استقالته، فعيّنت المفوضية الفرنسية حبيب باشا السعد رئيسا للجمهورية لسنة واحدة. وأمرت باجراء انتخابات نيابية، وانزلت عدد النواب الى ٢٥ عضواً ينتخب الشعب منهم ١٨ نائباً.

جرت الانتخابات في كانون الثاني ١٩٣٤، وكان في جملة النواب المعينين الأستاذ اميل إده والشيخ بشارة الخوري وانتخب المجلس رئيسا له شارل الدباس، وانتخب نائبا عن الرئيس نجيب عسيران.

ظلّ المجلس النيابي، يعقد جلساته في المكتبة الوطنية ريثما ينتهي بناء المجلس الحالي.

الكتلة الدستورية

كانت عودة الدستور أهم ما تتحفّز اليه النفوس الطامحة في سبيل العزّة الوطنية. وكانت روابط تفاهم سياسي وصداقة تجمع بين النواب الشيخ بشارة، والشيخ فريد الخازن، وميشال زكور، والأمير مجيد ارسلان، وكميل شمعون.

وبناء على اتفاق سابق بينهم، تقدم أحدهم الشيخ فريد الى المجلس الجديد باقتراح مآله، وجوب اعادة الدستور كاملا، فأثار اقتراحه حنق المفوض السامي عليه، وعلى مؤيدي اقتراحه رفاقه النواب المار ذكرهم.

نشأ على أثره تجمع بين هؤلاء النواب وغيرهم من نواب المجلس كان نواة الكتلة وبداية لحياتها التي كان الاقتراح المذكور سبباً لتسميتها الكتلة الدستورية.

لقد كان من عودة الدستور كلما طوته يد الانتداب، وحمايته من استبداد السلطة الحاكمة آنئذ، هدف نواب الكتلة الدستورية في ميدان سياسة استقلال تام ناجز ينبذ كل وصاية أجنبية وينفتح في التعاون على كل بلد عربي. هذا الى جانب ما كان يرى كل منهم في هذا الوضع من الوجهة الشخصية ما يعين على بلوغ ما تطمح اليه نفسه من مشارف السياسة ومناصب الحكم.

ويقول الوزير النقيب فؤاد الخوري، انه برز في تلك الفترة، وما بعدها رموز رفعوا من منسوب الحياة السياسية، وكان من أبرزهم صبري حماده وأحمد الأسعد وأبو الدستوريين الشيخ بشارة الخوري، والرؤساء كميل شمعون وفؤاد شهاب وشارل حلو.

قبيل انتهاء مدة ولاية الرئيس حبيب باشا السعد، أعلنت المفوضية يوم ٢٠ كانون الثاني ١٩٣٦ موعدا لانتخاب رئيس الجمهورية، فبرز التنافس بأجلى مظاهره للفوز بهذا المنصب الرفيع بين النائبين اميل اده وبشارة الخوري، وأنصارهما من النواب وغيرهم.

أعلنت المفوضية حيادها وقتئذ تجاه هذا الانتخاب، لكن ما قامت به أثناء ذلك، من نقل بعض كبار الموظفين، وما طرأ من تبديل في ميول بعض النواب لا سيما في منطقة أحد مستشاري المفوضية السيد يتشكوف في الجنوب، دلّ على انحياز منها الى جانب الأستاذ اده.

في موعد الانتخاب، وصل موكب المفوض السامي أمام المجلس، ولما دخل القاعة، وقف النواب واتجه الى منصة الرئاسة، وألقى خطابا وجيزا أشاد فيه بحياده.

وبعد انصرافه جرى الاقتراع فنال الأستاذ اده ١٣ صوتا والشيخ بشارة ١٢ صوتا. وأخيرا انحاز الفرنسيون الى الأستاذ اميل اده ففاز بالرئاسة.

في العام ١٩٣٧ تقدمت الحكومة المؤلفة من النائب خير الدين الاحدب رئيساً، وابراهيم حيدر وحبيب ابي شهلا والأمير خليل ابي اللمع، ببيان تطلب الثقة على اساسه.

الا ان الشيخ بشارة الخوري اثار مسألة دستورية، معتبراً ان الحكومة الماثلة امام المجلس غير دستورية لانها تتولى الاحكام، من دون ان يحلف رئيس الجمهورية اليمين القانونية المنصوص عنها في المادة الخمسين من الدستور.

الا ان المعارضة اقترحت ان يحلف كل من النواب هذه اليمين الدستورية قبل الاقتراع على الثقة، وطرحت الثقة، فنالتها الوزارة بالاكثرية.

بعد بضعة ايام وقعت حوادث املت على المفوض الفرنسي تأليف حكومة ائتلافية ضمت خير الدين الاحدب رئيساً وحبيب ابو شهلا وميشال زكور واحمد الحسيني اعضاء، ففازت بالاجماع. وبين ٣٠ كانون الثاني ١٩٣٤ و٥ حزيران تتابعت الاحداث الآتية: استقالة شارل دباس ١٩٣٦ وفاة النائب شبل عيسى الخوري، وتجديد ولاية اميل اده ٣ سنوات.

غياب ميشال زكور

إلاّ ان تلك المرحلة، تميّزت بغياب الوزير والنائب الشاب ميشال زكور، وقد أظهر طول باع ونجاح، على الرغم من صغر سنّه، إذ لم يتجاوز الأربعين من عمره، عند رحيله المفاجئ.

وفي ٢٩ تشرين الأول ١٩٣٧ عقد المجلس جلسته الأولى وانتخب رئيسا له بترو طراد ونائبا عن الرئيس نجيب عسيران.

وكان من الطبيعي ان تتألف الوزارة على أساس هذا الائتلاف من السادة: خيرالدين الأحدب رئيسا وحبيب أبو شهلا وجورج ثابت وابراهيم حيدر وزراء، ومن الدستوريين: موسى نمور، سليم تقلا والأمير مجيد ارسلان.

وبرزت معارضة شديدة في البلاد، ضمّت: بشارة الخوري، حميد فرنجيه، ميشال شيحا، الأمير فؤاد ارسلان، الشيخ يوسف الخازن.