IMLebanon

مدرسة الإرهاب!

 

سواء تمّ التوصل إلى اتفاق وقف النار بين العدو الصهيوني ومقاومي غزة، أو لم يتم، فالحرب مستمرة، وسواء رفع الحصار عن غزة المنصوب منذ قرابة ثماني سنوات أو لم يرفع. فالحرب مستمرة. ذلك ان اسرائيل تحتل فلسطين. ذلك أن اسرائيل ما زالت تدغدغ مجانينَها أحلامُ «اسرائيل الكبرى»، وطغيانها ما زال يغلي في مراجل قياداتها و»يعالوناتها» ونتنياتوناتها وليبرماناتها. يذهب يعالون ويأتي آخر أسوأ منه. ويذهب نتنياهو ويأتي آخر أكثر اجراماً منه. ذلك ان اسرائيل ما زالت تسيطر عليها فكرة تهويد القدس، وقضم الضفة وخنق القطاع. ومنع أي حل يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة.

والعدوان الجاري على غزة ليس سوى جولة. سبقتها جولات. وتعقبها أخرى، فالذهنية الاستعمارية الاستيطانية هي الحل «الأبدي» في الكيان الصهيوني. واعتبار ان كل الأراضي الفلسطينية هي مشروع استيطاني مستقبلي من ضمن استراتيجية تخريبية لكل ما يحيط بها من بلدان عربية وغير عربية.

فلا الحرب تنتهي عند رفع الحصار عن غزة، ولا عند فتح المعابر، ولا في تأمين ضرورات حياتية للسكان. فالحصار جزء من الاستيطان. وجزء من الذهنية التوسعية. وأساس من اسس الهيمنة الشاملة. وهذا يعني بالنسبة للكيان الصهيوني، أن كل ما يجري الآن وأمس وغداً، من أشكال العدوان لن يكون سوى تنفيذ الأجندة الاستيطانية وشل كل أمكانية لبناء دولة فلسطينية مقابل الكيان الصهيوني. أي رفض حل «الدولتين».

وعلى هذا الأساس، نجد أن كل فترة، يحاول الاسرائيليون تأديب الشعب الفلسطيني ونهره وتهديده واطفاء كل شعلة مقاومة فيه وكل أمل. فلسطينكم لنا. هذا هو الشعار المختبئ خلف ممارسات الدولة العبرية. وهذا ليس بجديد، فهذا رافق قيام الكيان الصهيوني باغتصاب «أرض بلا شعب» في مراحل حروبه العدوانية كافة، من 1948 إلى 1967، إلى 1973، فإلى الانتفاضة الأولى، فالثانية، وصولاً إلى هذه المرحلة. استراتيجية واحدة تفصل بين مراحلها اتفاقيات ومشاريع اتفاقيات من كمب دييد وصولاً إلى اتفاق روما، والقضية واحدة، ان اسرائيل لا تريد تقديم شيء للفلسطينيين. لا شيء. فقط أمكنة للعيش وموقتة. فقط مجرد سجون. فقط مجرد مستوطنات. أو مستوعبات. أو أقفاص. هذا ما خبرنا مع شامير وبيغن وبيريز ونتنياهو. هذا ما خبرنا مع الليكود والعمل وما بينهما؛ كأنما الخلاف بين ما يسمى اليمين اليهودي المتطرف، واليسار المعتدل، تفاصيل، أو هوامش، أو توزيع أدوار، يريدون القدس كلها. ويريدون إذابة سكان الضفة بالمستوطنات، وفلسطينيي اسرائيل بالتهويد. كل شيء قطعة. قطعة. ذلك ان «أيديولوجيتهم» التوراتية التي جعلتهم «شعب الله المختار» هي التي ولدت في نفوسهم هذا الكم من الاحتقار والشعور بالتفوق الانساني والعرقي، على شعوب العالم وخاصة العرب. إذاً فالجوهر فاسد. الجوهر قاتل. الجوهر مُنتنٌ. وعلى الرغم من كل هذه المشاعر «الاستعلائية» و«الاستكبارية» لا يتورعون عن تقديم أنفسهم امام العالم الغربي وغير الغربي، أنهم «ضحايا»: ضحايا الهولوكوست الذي لا شأن للعرب فيه ولا للفلسطينيين، ولأنهم ضحايا الهولوكوست، الذين جعلوه «أبراء» وتبريراً لكل جرائمهم فمن الطبيعي ان يتحولوا «ضحايا أبديين»… ويكفي ان يوجه أحد انتقاداً للسلوك الصهيوني في فلسطين أو خارجها، حتى يُتهم بمعاداة السامية: يخلطون بين العرق السامي واليهودية واسرائيل والصهيونية: وكل من يتعرض لهذه «المسميات» معاد للسامية وعنصري ونازي وفاشي… ونظن أن هذه الأدوات الاعلامية والسياسية (والأيديولوجية) والدينية، تعزز فكرة ان اسرائيل ماضية في تنفيذ مخططها الاحتلالي لفلسطين. هوّدت الجولان بموافقة النظام السوري الذي تخلى عنه مقابل «احتلاله» لبنان: احتلال الجولان مقابل احتلال لبنان. احتلت جنوب لبنان وأُخرجت منه. احتلت القدس وها هي تهودها. تحتل حالياً مزارع شبعا التي هدأت جبهتها منذ عدوانها الأخير على لبنان. تحاصر غزة منذ ثماني سنوات. تقضم القطاع قضمة قضمة. تسرق المنازل. وتصادر الأراضي انطلاقاً من «حقها الالهي»! تمتلك مئات الرؤوس النووية دفاعاً عن احتلالها. انها دولة مركبة على كيان مركب. بلا جذور. ولا أسس. ولكي تحافظ على تفوقها العسكري والميداني وتحكم السيطرة على الأراضي المحتلة، فها هي تذكر العرب والفلسطينيين كل فترة، بأنها موجودة وبأنها لهم بالمرصاد. وتفوقها الميداني والتكنولوجي «يُرجح» كل شيء. اليوم في غزة. يرفع نتنياهو «عقيرته» هذا الارهابي النقي بإرهابه. اتخذوا من خطف المستوطنين الثلاثة وقتلهم ذريعة ليتهموا المقاومة الفلسطينية ويصوروا أنفسهم الضحايا الذين يعطون أنفسهم حق الانتقام. علماً أنه لم يعرف حتى الآن لا من خطف هؤلاء المستوطنين ولا من قتلهم. ولكن يعرف العالم كله من احرق الشاب محمد خضير بطريقة بربرية. جهزوا «القبة الحديد» والصواريخ والبحرية والقوات البرية والدبابات واستدعوا الاحتياط وشنوا العدوان. أو الأحرى شنوا العدوان الأخير الذي لن يكون الأخير. ففتكت آلاتهم الحربية وطائراتهم بالمدنيين. هدموا المنازل على رؤوس ساكنيها. قصفوا سيارات الاسعاف والمستشفيات والمنازل اشباعاً للروح «الانتقامية» التوراتية. والواقع ان نتنياهو ويعالون وليبرمان وسواهم، ظنوا ان الوضع العربي الراهن، في مصر وتونس وليبيا وسوريا والعراق فرصة مواتية ليسجلوا نصراُ سريعاً على غزة. وظن نتنياهو ويعالون من دون أن ننسى هذا المسخ ليبرمان، ان العالم مشغول بالعراق وبأوكرانيا وسوريا… مما يتيح لهم انتهاز الظرف للانقضاض على غزة. لكن الأمور انقلبت عليهم. هم اعدوا العدة لغزة والمقاومة الفلسطينية كانت جاهزة وكذلك الشعب وكل الفصائل. راعَ نتنياهو ان تقوم مصالحة بين السلطة الفلسطينية وبين الحماس. فكل مصالحة بين «أعدائهم» هي خطر داهم عليهم. إذاً، فلتنقلب الطاولات والكراسي والمنازل على رؤوس أصحابها. لكن المغامرة تبقى المغامرة: ينتظرها الفجاءات والصدمات. ومغامرة المغامر الفاشل نتنياهو اصطدمت بمقاومة مُهيأة لمثل هذا الجنون. وعلى الرغم من التفوق العسكري الجوي والبحري والبري والتكنولوجي. فوجئ جيش العدوان الصهيوني بإرادة فولاذية ومشاعر تحريرية ومحاربين من اصناف احترافية تعرقل مغامرته الصبيانية الفاشلة. وها هو، أي نتنياهو يريد بعد تعثر «قببه» الحديد وترسانته المتطورة أن يُضعف عزيمة المقاومة ويضعضعها، باللجوء إلى أميركا أوباما وأوروبا… لوضع اتفاق وقف لاطلاق النار. هكذا وقف اطلاق نار (ربما بضمانات أميركية!) من دون أي اجراءات ميدانية أو سياسية. لا رفع حصار، ولا فتح معابر ولا وضع حد للاستيطان ولا اجراءات وقف تهويد القدس، لا أجندة حالية ولا مستقبلية. عداون ككل عداون ارتكب من قبل. بتدخل الأمم المتحدة التي انحازت إلى اسرائيل ودانت اطلاق الصواريخ على تل ابيب والمستوطنات الفلسطينية من دون أن تذكر عدوان اسرائيل. هكذا: الضحية تدفع والجلاد يقبض. الضحية تُدان والجلاد يُكافأ. انها السهولة بعينها: سهولة شن الحروب والاعتداء وسهولة التبرئة! أوليس هذا الوضع ما زال سائداً منذ 1948: قرارات الأمم المتحدة لا حبر ولا ورق. مجرد أرقام. ويأتي رؤساء ويذهب رؤساء. وتمضي أنظمة وتأتي اخرى، واسرائيل هي «الحي الباقي» صامدة في جبروتها متشبثة بإسرائيل الكبرى راسخة في شعورها بالتفوق معززة بأمراض الاحتقار للعرب… جاء الربيع العربي سقط من سقط ومن سيسقط من الطغاة. واسرائيل واقفة. سقط جدار برلين وجدران اسرائيل لم تسقط. زلزل الاتحاد السوفياتي واسرائيل في «عنفوانها» كأنها الثابت الوحيد وكل ما حولها متحول. كأنها الحقيقة الوحيدة وكل ما حولها مفترض. وتكهن. بهذه الذهنيات المريضة تتصرف اسرائيل. لكن هذه المرة، المشكلة أصعب. فالغرب وربما خجلاً بدأ يرفع صوته ضد همجية اسرائيل. وأميركا وأوروبا اوقفت رحلاتها الجوية المدنية إلى مطارات اسرائيل! وان العالم، اليوم مشغول بقضايا باتت تهمه أكثر من نزوات الكيان الصهيوني. مشغول بالنووي مع ايران، وبأزماته الاقتصادية وبأوضاعه الاجتماعية وبالعراق وبسوريا. ولهذا عندما حسب نتنياهو ان انشغال العالم يُسهل عليه تمرير عدوانه، بدا هذا الحسبان في غير محله. فالعالم ضاق بإسرائيل. صارت عبئاً عليه. وحتى على اميركا وأوروبا والصين وروسيا. انقلبت حسابات نتنياهو عليه ووجد اهتمام العالم بهذه «الدمية الالهية» اسرائيل قد خف إلى حد كبير. ذلك ان التطرف الديني اليميني في اسرائيل، كأنه الشرارة الأولى التي اشعلت اشكال التطرف العنصري الديني في أوروبا نفسها وصولاً إلى أميركا: من فرنسا وحزب الجبهة الوطنية في فرنسا إلى اليمين الايطالي فالسويدي وشعر العالم ان «التقوقع» القومي الضيق الذي انتجته اسرائيل وبرعت في انتاجه حتى العنصرية قد غزا أوروبا: البضاعة الاسرائيلية الفاسدة تغزو أوروبا. وها هي أوروبا مشتتة مثل كانتونات الكيان العبري. ها هي مشاعر القومية الانعزالية تلتهب وتهدد وحدة اوروبا واقتصادها (هذا ما أفرزته الانتخابات الأوروبية الأخيرة) . فكأنما الغرب يدفع ثمن اخطائه عندما ساند مثل هذه المشاعر العنصرية الانعزالية الأصولية عند الاسرائيليين. دفع الثمن لأن هذه المشاعر كالأوبئة تنتقل بالعدوى من شعب إلى شعب. ويمكن ان يستشف العالم ان تَفلّت أنظمة الارهاب تحذو حذو اسرائيل: بوتين يهدد اوكرانيا ويغزوها ويسعى إلى تقسيمها… ايران توسع «استيطانها السياسي» في العراق وسوريا ولبنان! امارات دينية تفرخ هنا وهناك: من داعش إلى النصرة… وسواها، أسوة بالإمارة الصهيونية الدينية. فإسرائيل هي مصدر هذه الأوبئة. ونظن ان ما ارتكبته في فلسطين ولبنان من تنمية المشاعر التقسيمية والعنصرية ترتد عليها في أوروبا نفسها اليوم: صعود النازية في المانيا واليمين المتطرف في ايطاليا وبريطانيا والبلاد الاسكندنافية لا توفر فقط مشاعر العداء للمسلمين والعرب وانما لليهود أيضاً. وكأن «عصمة» الهولوكوست والشعب الضحية ومحرمات «معاداة السامية» بدأت تتحلل في ضمة واحدة، مع العداء للمسلمين والعرب. ما زرعته اسرائيل وها هي تحصده. داخلها، في العالم. ومن ينظر إلى الوضع الاسرائيلي الداخلي، يرَ أن هذه «الوحدة» الكيانية المقدسة القائمة على «العدوان» بدأت تتفكك، وها هي الدولة الاسرائيلية تلحق بمثيلاتها العربية والغربية لتنحو نحو الضعف امام الامارات الدينية غير المعلنة، والكانتونات «الاثنية» الصريحة وها هو اليمين المتخلف البربري، الارهابي، يتحكم بالدولة الصهيونية. وهذا يعني، ان ما روجت له اسرائيل ارتد عليها. وهذا يعني، ان الدولة الارهابية تُنتج الارهاب لحماية نفسها لكنها في الوقت نفسه، تنتج «ارهاباً» شعبياً أو جنوناَ شعبياً داخلياً يُهددها. حتى ان بعض اليساريين الاسرائيليين يقول: إن الربيع العربي آتٍ لا محالة إلى اسرائيل! وهنا نقول: ان ارهاب الدولة، كل دولة قد يٌفرز قطاعاً، واسعاً ارهابياً في داخله. وقد ينتج قطاعاً منتفضاً عليه. ينتج نفسه، ونقيضه. هذا ما حصل في اسرائيل، وبدأ يتبلور منذ غزوها لبنان عام 1982 واغتيال رابين اللذين كانا علامة تحول واضحة في المجتمع الاسرائيلي الذي بدأ يتحول «تجمعات» متنافرة. وهذا ما حصل في الدول العربية التي عرفت الربيع العربي: أنظمة الارهاب الرسمية انتجت في داخلها وخارجها ظواهر «ثورية» وارهابية واحدة على شاكلتها وأخرى على نقيضها. وكيف تفسر ظهور «الاسلام» الأصولي المتطرف كداعش والنصرة وحزب الله وكتائب حزب الله سوى ارهاب الأنظمة: انجبت نفسها بسحن وعناوين أخرى. وما الفارق بين داعش والنظام السوري أو بين داعش العراق والنظام العراقي وتالياً بين التطرف اليهودي الاستيطاني وبين الكيان الاسرائيلي الارهابي. ذلك انه من الصعب تمييز الحدود والمفارقة بين ارهاب الدولة وتحولات المجموعات الشعبية. وبات ما يهدد الأنظمة او ما اسقطها او ما يعرض الدول الاسلامية والعربية للتفكك، هو الذي يهدد اسرائيل! والقول ان اسرائيل تعيش حرباً أهلية كامنة قول صحيح، وكأن الظروف لم تنضج بعد لتفجيرها: انها البربرية الساطعة والبربرية تنتج البربرية كالكوليرا والطاعون.

المؤرخ الاسرائيلي زي سترنهل يقول في حوار اجرته معه مجلة «اكسبرس» الفرنسية في عددها الأخير ان «جريمة احراق الشاب الفلسطيني هي دليل على الراديكالية الدينية والقومية والدرامية لفئة من الاسرائيليين وهي نوع من البربرية . وقد بدأ هذا قبل سنوات. لأن اليمين الهامشي المتعصب بات موجوداً اليوم في المركز، وهو تطور يوضع بين مزدوجين مع الاستيطان الذي يعمل كسرطان وينذر بنهاية الديموقراطية في اسرائيل». ويضيف المؤرخ والكاتب «بتنا نعاني من تحديد انفسنا على مستوى القيم العالمية. نرفض ان نرى ان تقرير مصير الشعوب هو حق يجب ان يتمتع به الفلسطينيون لكن ما كان شرعياُ في اسرائيل حتى 1949 كف بعد ان صارت اسرائيل دولة!».

هذا مؤرخ كبير يرى الأمور، بعيون أخرى واقعية. وقد خونه العديدون في اسرائيل واعتبروه منحازاً إلى الفلسطينيين ضد اليهود.

بعد هذا النموذج نقدم النموذج النقيض: البربري الصهيوني بلبوس»فلسفي» حضاري. فالفيلسوف التافه المتعصب برنار هنري ليي يقول في زاويته الاسبوعية في مجلة «لوبوان» الفرنسية (في عددها الأخير) إلى هؤلاء القذرين والأغبياء نقول لهم من جديد ان تجمعهم (يقصد المظاهرة التي قامت في باريس تأييداً للشعب الفلسطيني وتنديداً بإرهاب اسرائيل) خلف صواريخ القسام التي تطلق عشوائياً على النساء والأطفال والشيوخ والمدنيين الاسرائيليين ليست عملاً بريئاً ولكن دعم للإرهاب. وهاجم ليي وسائل الاعلام التي ما زالت تركز على تسمية «العدوان الاسرائيلي» او»السجن الذي صارته غزة» معتبراً ان ما ترتكب اسرائيل ليس عدواناً بل مجرد رد فعل اسرائيلي على الصواريخ التي تصيب المدن».

انه نموذج بعض اليهود الفرنسيين وغير الفرنسيين «المتفلسفين» الذي صنع منهم الارهاب الصهيوني… ارهابيين فكريين بامتياز!