تاريخان أخذا المنطقة العربية إلى مكان مختلف، توقيع اتفاقية كمب ديفيد بين مصر وإسرائيل، ونجاح الثورة الإيرانية بقيادة الشيعية السياسية الجديدة.
الحدثان حملا إلى الدواخل العربية ارتدادات عاصفة، كان من نتائجها تصدّع الحصانات المحلية والبينية، وساهما في رسم مجرى آخر للتطورات. وعلى رغم أن عنوانَي الحدثين متعارضان، بل متناقضان، فإن الحصيلة كانت واحدة، على صعيد الإضعاف المتوالي الذي كان للبنية العربية الأصلية النصيب الوافر والأساسي في حصوله.
عنوان الخطر الإسرائيلي واضح، وتعقيدات شرحه شبه معدومة، وشعار بسيط يكفي للاستنهاض في مواجهته. لكن الحال مع التداعيات الإيرانية، التي بدأت بداية مختلفة مع الإطاحة بالشاه، عادت لتتبدل أثناء الحرب مع العراق، وبعد الحرب على هذا البلد العربي، التي خاضها التحالف الدولي، بإشاحة نظر ومضمرات إيرانية، وبقلة دراية سياسية مدهشة، وبتاريخ حافل للنظام الحاكم، وفّر لقوات الغزو أهم التبريرات.
في ميدان النتائج البعيدة، التي صارت حاضراً راهناً، نشأ في إيران «مركز» للشيعية السياسية، على غرار ما فعلت «الإيديولوجيات الكبرى، التي ناوشت التاريخ انطلاقاً من قاعدة نواة صلبة، ومن السعي إلى توسيع المدى، بحيث يطاول التأثير والنفوذ كل التراب الذي تصل إليه أقدام الجيش الخاص، أو الجيوش الحليفة، وبحيث يحتل «المقال المركزي»، المثقل بالوعود والشروح وتعداد الوسائل، أوسع النظرات والرؤى، وينزل عزيزاً محفوظاً فوق ما لا يحصى من صفحات.
لم ينجُ بناء المركز، الإيراني وسواه، من تنقية الداخل أولاً، وتصفية الأصوات النشاز فيه. هذا حصل تباعاً، ومازال مستمراً، بوتائر أقل حدّة، وبوسائل أقل كلفة، على صعيد السمعة والسياسة والموقع. هذا في المدى الوطني، لكن توسيع المدى الخارجي، لم تتوافر له نفس السلاسة في الأساليب، بل إن ممره الافتتاحي كان مدوياً في العراق، وما زال متفجراً في سورية والعراق، وفي عدد من بلدان الخليج، وعرف نسخته اللاهبة في لبنان، التي استعرت سياسياً، وخفّف من لفحها عنوان القتال مع إسرائيل، لكن آثار التبريد السياسي، عادت فتبدّدت في جنبات «الاجتماع اللبناني»، وبديلاً من ذلك، اشتقّ الاجتماع المذكور لذاته، وسائل تبريد النار، بنيران من جنسها!
لقد أعلن المركز الإيراني بلده مرجعية ثورية، ولقي الإعلان صدى غير قليل، بخاصة في المنطقة العربية التي تعيش صراعها المفتوح مع إسرائيل. ولقد حرص المركز عينه، على أن يعطي لمرجعيته الثورية صفة الإسلامية، وفي هذا المجال أيضاً، كانت الاستجابة ملموسة، بخاصة من قبل الذين توسموا في النسخة الإيرانية عناصر مشتركة، تخفّف من غلواء الانقسامات المذهبية التاريخية الموروثة، وتعيد التصويب على «العدو المشترك»، للأمتين: العربية والإسلامية. لم يستطع الطموح الإيراني الصمود، بعد العاصفة التي ضربت أرجاء الديار العربية، وكان للمركز أن يعيد ترتيب حساباته وفق أولوية المصالح أولاً، وبسياسة تستبعد كلام الإيديولوجيا، ما كان منه قناعة، وما كان منه رداء نفوذ. لقد بات واضحاً أن الاختيار السياسي لإيران، لم يكن انحيازاً لثوريتها… فانضمت إلى القديم الموروث، ولم يكن تغليباً لإسلاميتها، فوقعت في المذهبية الخطرة. هكذا فقدت المرجعية، التي كانت مقبولة ممن هم خارج تفسيراتها الاجتهادية، حظوتها لدى أولئك الحلفاء الذين قدّموا الاتفاق السياسي على الاختلاف الاجتهادي، وهكذا فُتح المجال أمام «مرجعيات» مذهبية أخرى، لا تشكل مراكز «دولتية». لكنها تكتسب بالتأكيد «شرعية» المركز الشعبي، أو الشعبوي، الذي يردّ على تجاوز المركز المختلف، بتجاوزات مشابهة من عندياته.
ميادين التجاوز كثيرة ومتعددة، تبدأ من الاسم: دولة خلافة في مقابل جمهورية إسلامية، وتنتقل إلى الوسائل: حشد وبث وتوجيه وتحريك، في موازاة ما يعادل هذه الحركات، الميداني منها والفقهي، وتعمد إلى توظيف الدين: لكم إسلامكم ولنا إسلامنا، وتحفر في مجهول ومعلوم التاريخ: لكم روايتكم ولنا روايتنا، وتعيّن القائد، فيكون خليفة للمسلمين في مواجهة الوليّ الفقيه، الذي تتراجع حدود ولايته إلى من يقول قوله فقط من هؤلاء المسلمين.
ما الحصيلة إذن؟ لا يستطيع الخيال المتفائل ما يتجاوز القول إننا أمام إحياء نزاع كان خافتاً، وحقنه بمادة استمرار تمدّه بقوة دفعٍ إلى أعوام مقبلة، ولا يقوى هذا الخيال على أكثر من طلب «الهدوء» في إدارة النزاع، في ظل وقائع تقول إن «المخرج» المطروح على المتنازعين لا اسم له، سوى اسم تناسل الحروب الأهلية.
هل من مجال لتسويات آنية؟ ربما، إذا عمد المركز الأساسي إلى تليين مصالحه، فبات التليين مدخلاً إلى تهوين المصالح المعترضة والمعارضة.
نقول مصالح، حتى لا يأخذنا أصحاب المرجعيات «بالسنَّة والحديث والتفسير»، أي بكل العدّة المعرفية، المقتصرة فقط، على حدود أذهانهم… وما أفقرها من أذهان.
* كاتب لبناني