استطاع مجلس النواب المنتخب عام 1972، والذي مُدّد له لغاية 1992، أن ينتخب خمسة رؤساء للجمهورية، بينما فشلت المجالس الخمسة المنتخبة بين 1992 و2009 في أن تنتخب بحرية وشفافية رئيساً واحداً للجمهورية. اختارت الوصاية السورية لغاية انتهائها في نيسان 2005 رئيسين للجمهورية ومددت ولاية كل منهما، وفشل مجلس النواب المنتخب بعد انتهاء تلك الوصاية عام 2005 في انتخاب رئيس للجمهورية في المهلة الدستورية عام 2007، واستمر الشغور في الرئاسة ستة أشهر قبل اتفاق إقليمي ودولي على اختيار قائد الجيش يومذاك رئيساً للجمهورية، وصادق مجلس النواب على الخيار بعد مؤتمر الدوحة في أيار 2008 “غصباً” عن الدستور.
اليوم يفشل مجلس 2009 الممدد له، والذي صُرف لانتخابه ما يقارب مليار وربع مليار دولار أميركي، في انتخاب رئيس للجمهورية منذ 25 أيار الماضي. فما هو السبب لعدم قدرة النواب على انتخاب رئيس للجمهورية؟ هل أن العلّة في الطبقة السياسية؟ هل العلّة في الانقسام العمودي المذهبي المحلي؟ هل العلّة في الانقسام المذهبي الإقليمي؟ هل العلّة في ارتباط القادة اللبنانيين بالمحاور والصراعات الإقليمية المتحاربة؟ هل العلّة في انعدام الاستقرار الأمني والسياسي في دول المنطقة؟ هل العلّة في انعدام قدرة القادة الموارنة على الاتفاق على أحدهم مرشحاً؟
الجواب حتماً كل الذي سبق وربما أكثر، ويغيب عن انتخابات الرئاسة هذه المرة العامل الدولي الذي يُمارس راهناً بطريقة غير مباشرة.
أصبح اختيار رئيس للحكومة وانتخابات رئاسة الجمهورية مرتبطين ارتباطاً وثيقاً بالقوى الإقليمية. إن اختيار رئيس للحكومة عامي 2011 و2013 وتشكيل الوزارة في شباط الماضي بعد عشرة أشهر من التكليف، بالإضافة إلى تطورات انتخابات رئاسة الجمهورية خاصة بعد اجتماعات باريس الشهر الماضي، تدل بوضوح على التأثير الإقليمي على مجرى الأمور في لبنان. فإذا كانت هذه الوقائع والأسباب الموجبة تمنع مجلس النواب من انتخاب الرئيس، ما العمل إذاً؟
من هذا الواقع الأليم، انطلق اقتراح العماد ميشال عون لتغيير آلية انتخاب الرئيس. يعطي المشروع المقترح اللبنانيين الحق في انتخاب رئيس للجمهورية بحرية ومن دون تأثير خارجي. هذا هو مضمون الاقتراح الذي طرحه العماد عون في مؤتمره الصحافي الأسبوع الماضي. إن الرد التهكمي الذي كرره معارضو العماد عون سياسي بامتياز وبعيد عن الحوار الجدي والمثمر الذي يتطلبه الوضع الراهن للحفاظ على الأمن والاستقرار.
قد لا تقنع مبادرة العماد عون البعض وهذا حق له. لكن الواجب الوطني يتطلب ردوداً مسؤولة تعالج الوضع الحالي بتقديم الحلول، حتى لا تتجدد مأساة شغور رئاسة الجمهورية. أما في ما يتعلق بالتوقيت، فالحاجة أم الاختراع. بكلام آخر وفي ما يتعلق بالتشريع، تتقدم مشاريع القوانين عندما تكون هناك حاجة إلى ذلك. مثلاً، تدرس الحكومة راهناً تفرغ أساتذة الجامعة اللبنانية، كما يناقش مجلس النواب مشروع سلسلة الرتب والرواتب، وذلك لأن الأساتذة يتظاهرون ويطالبون بإقرار تلك المشاريع. اليوم، المطلوب من كل المسؤولين، خاصة نواب الأمة، التفكير والإقدام على مشاريع لمنع تكرار الشغور الرئاسي لأن الآلية الراهنة لانتخاب الرئيس تحول دون انتخابه.
وقد كرر العماد عون أن مشروعه يتطلب تعديل الدستور ولمجلس النواب أن يأخذ الوقت الكافي. كذلك، شدد العماد عون على أن مشروعه لا يتعارض أبداً مع اتفاق الطائف لأن تعديل آلية انتخاب الرئيس لا تقترن بتعديل صلاحياته، بالإضافة إلى أن مشروع التعديل المطروح لا يتعارض مع صلاحيات مجلس النواب الذي تبقى مهماته الأولى التشريع.
إن الهدف الآخر للتعديل المقترح بانتخاب رئيس للجمهورية ليشارك في صنع القرار، وخاصة أن الشراكة هي هدف كل اللبنانيين، ومنهم المسيحيون الذين يعتبرون أنهم غُيّبوا عن صناعة القرار منذ بداية تطبيق اتفاق الطائف (1990)، وتخصيص الوصاية السورية القيادات الإسلامية لتسيير أمور الدولة. إن الأزمات المحيطة بلبنان والخطط التي ترسم لتغيير خارطة المنطقة، تتطلب أيضاً رئيساً يدير، قدر الإمكان، الأزمة ولا تديره.
بالنسبة إلى اقتراح إجراء انتخابات تمهيدية يختار من خلالها المسيحيون مرشحيهم المفضلين، على أن يختار اللبنانيون أحدهم رئيساً، إن ذلك يتناسب مع اختيار الشيعة رئيس مجلس النواب واختيار السنّة رئيس الحكومة. إن اختيار أكثرية نيابية الرئيس نجيب ميقاتي (كانون الثاني 2011) ترك أثراً سيئاً عند أكثرية النواب السنّة الذين استمروا مع حلفائهم من طوائف أخرى في اتهام حكومة الرئيس ميقاتي بأنها غير ميثاقية وأنها حكومة “حزب الله”. إلى ذلك، في زمن “داعش” و”النصرة”، اقتراح كهذا يقوي الشراكة الوطنية ويصون الاستقرار، كذلك يتماهى هذا الطرح مع ما يصرح به الرئيسان نبيه بري وسعد الحريري بأنه على الموارنة وسائر المسيحيين الاتفاق على مرشح لرئاسة الجمهورية.
في الخلاصة، منع الانقسام العمودي بين المسلمين والمسيحيين منذ 1988 انتخاب رئيس للجمهورية، ولن يسمح بالمديين القصير والمتوسط بانتخاب رئيس للجمهورية في المهلة الدستورية. لذلك يأتي اقتراح العماد ميشال عون في وقته كمحاولة لوضع آلية حاسمة لانتخاب الرئيس ومنع الشغور في هذا المنصب الأهم. ويستحسن بالمنتقدين والمتهكمين بأن يقدّموا أفكاراً ومشاريع تؤكد على انتخاب الرئيس في موعده. إن الادّعاء بأن انعقاد مجلس النواب بأكثرية الثلثين يسمح بانتخاب رئيس للجمهورية في هذه الظروف الإقليمية، وارتباط معظم الأطراف اللبنانيين بالصراعات الإقليمية والسياسية، تمنٍ في غير محله. فالعماد عون لا يمنع ولا يفرض خيارات على أحد من الأفرقاء اللبنانيين، وفي استطاعة حلفائه في 8 آذار، لو شاؤوا، الاتفاق مع 14 آذار على مرشح ماروني للرئاسة كما فعلوا عام 2008 عندما تجاوبوا مع التمنيات الإقليمية والدولية لانتخاب الرئيس.