عندما دعا الأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصرالله إلى عدم انتظار نتائج الحوار السعودي -الإيراني، كان يدرك ما يقول. التعقيدات القائمة بين الجانبين أعمق من أن تُحلّ على «التوقيت اللبناني»، والأحداث التي يشهدها العراق في اليومين الأخيرين دليل إضافيّ على استمرار النزاع بين الجانبين على أكثر من ساحة، وفي أكثر من ملفّ، ولبنان ليس قادراً في ظلّ المخاطر والتحدّيات الداخلية والخارجية على انتظار «التسوية» حتى يخرج برئيس جديد للجمهورية.
في المنطقة تتشكّل محاور إقليمية ذات صلات دولية قوية. والتشظّي الذي يضرب المشرق العربي ليس مرشّحاً للحسم على المدى المنظور. والمحاولات السعودية – الايرانية لإيجاد أرضية مشتركة تُرسي الامن والاستقرار والتعاون في المنطقة لا تزال تشوبها تعقيدات ونزاعات كثيرة، والملفّات المفتوحة.
التفاهم الايراني – السعودي انطلاقاً من لبنان ليس كافياً للبناء عليه والقول بنتائجه المباشرة على المدى المنظور. ففي المنطقة «فتنة كبرى»، كلّما رُتِقت فتقت مجدّداً، وخير دليل على هذه المراوحة إعادة فتح جبهة اقليمية – دولية في العراق عبر ما يسمّى تنظيم «داعش»، وهو في الحقيقة عبارة عن تقاطعات استخبارية تدعمها وتموّلها دول اقليمية معروفة.
في سوريا يتقدّم محور «المقاومة» بالنقاط، لكن يبدو أنّ هناك حرب استنزاف طويلة تُعدّها الدول المنخرطة في الحرب ضد دمشق. بل يبدو أنّ بغداد ودمشق ستكونان محور النزاغ المُفضي الى تشكّل محاور اقليمية وتثبيت مواقع النفوذ بين اللاعبين الاساسيين على مستوى المنطقة.
في ظلّ هذه الصورة المعقّدة ماذا ينتظر اللبنانيّون؟ ولماذا لا يتفاهمون على معالجة ملفّ رئاسة الجمهورية بزخم محلّي وخلق وقائع داخلية يُقنعون بها الخارج ويضعونها امام المجتمع الاقليمي والدولي كمقترحات وتصوّرات لبنانية؟
كلّ الظروف والرمزيات في المنطقة تُفضي الى ضرورة انتخاب رئيس جمهورية مسيحي قوي ويُعبّر عن بيئته وتطلّعاتها. المسألة المسيحية في الشرق جزء وافر من رمزية المشهد المحلي والفراغ الضارب في قصر بعبدا. يجري الدفع بالمنطقة المشرقية نحو «الهويات الضيّقة» وضرب التعدّد والتنوّع الذي يؤمّنه الوجود المسيحي المشرقي، وعدم وجود رئيس مسيحي في سدّة الرئاسة اليوم استجابة «مجّانية» لمساعي إضعاف المسيحيين في الشرق من أجل القضاء على هذا التعدّد والتنوّع.
المسألة ليست في الأسماء، ولا في المواقع. جوهر الموضوع يكمن في هذه النقطة تحديداً، وكلّ مشاركة في تعطيل وصول رئيس للجمهورية الى الموقع الاوّل في الدولة، هي في الواقع مشاركة في تنفيذ مشروع تفجير «المشرق العربي»، وتهجير المسيحيّين ووضع اللمسات الاخيرة على «حلم» يهودية الدولة في فلسطين المحتلة.
المسيحيّون في لبنان امام مسؤوليات تاريخية تشبه دورَهم الذي اضطّلعوا به في بدايات القرن الماضي. الاستقالة الآن من الدور والتعامل التقليدي مع الحدث معادلة موضوعية لخسارة الموقع. لم تعُد الصيغة اللبنانية تتحمّل ترَف «الانقسام المسيحي»، وعدم الإجماع على مرشّح يعيد إلى الرئاسة دورها في قيادة البلد وحماية ثقافة الغنى والتعدّد في الاقليم.
الكنيسة المارونية اليوم امام تحدّيات «تأسيسية» تشبه مرحلة «مؤتمر فرساي» 1919 والدور الذي لعبته في الدفع نحو ولادة «لبنان الكبير». ثمّة فارق جوهري هنا بين الحراك السياسي والحراك التأسيسي. بكركي لا تزال تعالج الفراغ الرئاسي بدعوات ومحاولات سياسية مبنية على فهم قديم للصيغة والدور، فيما الواقع يحتاج الى موقف «تأسيسي» كياني يحمي الصيغة ويعيد للمسيحيّين المشرقيين دورَهم وحضورَهم وشراكتهم في حماية لبنان وإعادة تأسيس المشرق العربي بناءً على رؤى ومفاهيم حديثة.
الأمر ليس في الأسماء والمرشّحين وخياراتهم. ما يطرحه علينا الشغور في موقع الرئاسة اللبنانية أبعد ممّا يخال البعض ويتصرَّف. لبنان صيغة فريدة إذا عرف المسيحيّون إدارة معاركهم، لكنّه في النهاية بلد عربي «تقليدي» إذا استقالوا من اتّخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب.