لئن لبث البعض مقتنعاً بجدية التوقعات التي روجت عن المنافع التي سيجنيها المجتمع الدولي والعرب والأميركيون من جراء الحرب الأميركية على العراق، فان الاندفاعات العسكرية التي يحققها تنظيم «داعش» في أرض الرافدين والمشاهد البشعة التي ترافق هذه «الفتوحات» جديرة بإعادة النظر بهذه التوقعات. لقد وعدت إدارة جورج بوش بإعادة بناء الدولة والوطن والديموقراطية في العراق، ومن ثم بتكرار النموذج العراقي سلماً في كافة دول الشرق الأوسط. بالطبع هذه الوعود لم تتحقق، وجاء «داعش» أخيراً لكي يطلق عليها رصاصة «الرحمة».
في نفس الوقت الذي وضع فيه «داعش» الاحتلال الأميركي للعراق وإفرازته على المحك، فقد تحول تنحي نوري المالكي عن رئاسة الحكومة العراقية إلى مناسبة لمراجعة مرحلة الاحتلال الأميركي وسجل الحكومات العراقية المتعاقبة ودورها في إيصال العراق إلى وضعه الراهن، والدروس التي يمكن استنتاجها من الأحداث التي مرت بها البلاد منذ بداية الاحتلال. ولقد مر العراق خلال هذه الفترة في مرحلتين: الأولى، ابتداء من عام 2003 وانتهاء بعام 2006. والثانية، بدأت في عام 2006 بتشكيل حكومة نوري المالكي الأولى وتنتهي بخروجه من الحكم. ولقد تركزت المراجعات على مرحلة المالكي حيث أن حكومته كانت الأطول عمراً من الحكومات السابقة، ولأنها ولدت في ظل التراجع النسبي للمقاومة الوطنية العراقية ضد الاحتلال، هذا التراجع افسح مجالاً لحكومة المالكي لوضع برامجها موضع التنفيذ، هذا إذا كانت تملك أصلاً مثل هذه البرامج، ولأنها تضمنت خطوات «تكوينية» للدولة العراقية وللديموقراطية في العراق مثل وضع الدستور وانتخاب البرلمان العراقي وانبثاق حكومة منه.
بعد ثماني سنوات من الحكم، توصل كافة المعنيين في الشأن العراقي، باستثناء المالكي وبعض أعضاء حزب «الدعوة»، إلى أن الحكومة فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق الأهداف الكبرى التي وعد الاحتلال بتحقيقها. فأين كان هذا الفشل ومن يتحمل مسؤوليته؟ النموذج الأكبر للفشل تجسد في عجز الحكومة عن ضمان أمن العراق الذي فقد وحدته الترابية، وأمن المواطن الذي يتعرض اليوم إلى شتى أنواع الأخطار. تحمّل مجلة «الايكونومست» نوري المالكي المسؤولية الكبرى «لأنه مارس سياسة التسلط والتعصب المذهبي والفساد» وقمع بقسوة غير مبررة حركات الاحتجاج ضده إلى درجة أن بعض نواب كتلة «دولة القانون» التي يتزعمها رئيس الحكومة باتوا مقتنعين بضرورة رحيله (العدد الصادر في 16/08/2014). ونقل تلفزيون «فوكس نيوز» (14/8/2014) انتقادات مماثلة موجهة إلى المالكي ركز أصحابها بدورهم على فشله في إعادة بناء القوات المسلحة العراقية على أسس سليمة وعلى تحويلها إلى ما يشبه الميليشيا التابعة له شخصياً ويقودها، في أكثر الأحيان، ضباط يفتقرون إلى الكفاءة.
إن سجل المالكي في الحكم بائس بحيث يصعب الدفاع عنه أو التخفيف من حجم الأضرار التي تسبب بها. ولا يستطيع المالكي أن ينفي مسؤوليته عن إخفاقات حكومته، فهو كان يملك صلاحيات واسعة خاصة في مجال الأمن. وبالارتكاز إلى هذه الصلاحيات وإلى الإمكانات المادية المتنامية للدولة العراقية حاول المالكي أن يصور نفسه بأنه رجل العراق القوي. ولعله يمتلك هذه الصفة بالمقارنة مع بعض منافسيه المحليين، ولكنه لم يمتلك هذه الصفة بالمقارنة مع أصحاب قرار الحرب في واشنطن، ومع الذين عملوا في طهران على تجيير الحرب ونتائجها لمصلحة بلادهم. إن المالكي لم يكن واحداً من هؤلاء، ولا كان المالكي واحداً، من ناحية أخرى، من الذين اتخذوا قرار حل الجيش العراقي، والذين حددوا الغاية من وراء هذا الحل ووراء الأسلوب الذي جرى بموجبه تطبيق القرار.
لقد شاب قرار حل الجيش العراقي الكثير من الغموض. القرار اتخذ في واشنطن ومن قبل مسؤولين أميركيين ولكن في أي سياق ولماذا؟ حتى الآن ليس من السهل الإجابة على هذا السؤال. بل ليس من السهل الإجابة على أي سؤال يتعلق بخطط واشنطن بعد احتلال العراق. لقد عمل الفريق الحاكم إبان إدارة بوش وعمل المحافظون الجدد، بصورة خاصة، على إحباط أي نقاش حول هذه المسألة. ورداً على الذين دعوا إلى حوار حول فوائد الحرب، كتب روبرت كوغان وويليام كريستول، وهما من المحافظين الجدد النافذين ومن الذين قادوا حملة الترويج للحرب مقالاً مشتركاً يقولان فيه إن بقاء النظام في العراق هو أسوأ من أية نتيجة تقود إليها الحرب مثل تفكك العراق وصعوبات انتقاله إلى نظام جديد أو غير ذلك من التحديات. لم يتوقع الاثنان ظهور «داعش» ولكنهما كانا على علم كاف بتنظيم «القاعدة» وباستعداده للاستفادة من فرصة سقوط النظام السابق لنقل العديد من نشاطاته إلى العراق. على رغم ذلك عارض كوغان وكريستول بحماسة أي نقاش حول عراق ما بعد الحرب. وعندما حذر رئيس أركان الجيش الأميركي اريك شينسكي أعضاء الكونغرس الأميركي من تحديات الحرب وأخطارها وقال إن احتلال العراق يحتاج إلى جيش بمئات الألوف من أجل حفظ الأمن وحماية قوات الاحتلال تعرض إلى الانتقاد العلني من قبل دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي ونائبه بول وولفوفيتز.
وعندما حل الجيش العراقي، قدم بول بريمير ثلاثة تبريرات لذلك بقوله إن الجيش تفكك تلقائياً بعد الحرب، وأن إعادة بنائه سوف تكون صعبة بسبب وجود ضباط من العهد السابق داخل القيادة العسكرية، وأن الجماعات غير العربية وغير السنية لن تقبل باستمرار الجيش السابق. لم تقنع هذه التبريرات الركيكة أحداً. ويقول فرنسيس فوكوياما في كتابه «بناء الوطن: ما وراء أفغانستان والعراق»، أنه بصرف النظر عن صواب أو خطأ هذه التبريرات، فان طريقة تطبيق قرار الحل كانت منافية تماماً للأصول المتبعة في حل الجيوش والميليشيات. فهنا يعتمد أسلوب التدرج ويتقاضى المنتسبون إلى التشكيلات العسكرية تعويضاتهم إلى أن يجدوا عملاً لهم في مجالات أخرى أو داخل المؤسسة العسكرية عندما يعاد تأسيسها. ويتفق السفير جيمس دوبنز الذي عمل مستشاراً للرئيس الأميركي لعدة سنوات مع فوكوياما في ملاحظاته، ويضيف إن إدارة بوش تجاهلت كلياً، بحل الجيش العراقي وبالطريقة التي تم بها، الخبرات الأميركية العريقة وخبرات هيئة الأمم المتحدة في حل وإعادة بناء منظمات وتشكيلات أمنية في جنوب أميركا وكوسوفو وأفغانستان.
إن نوري المالكي لا يتحمل مسؤولية قرار حل الجيش العراقي ولا يتحمل المسؤولية عن الطريقة التي طبق بها. إن المسؤول عن كل ذلك هو إدارة جورج بوش ومن كان يؤيدها من المحافظين الجدد. ولعل ما جاء في حديث ألقاه فيليب زيليكو الذي عمل في المجلس الاستشاري للرئيس الأميركي من عام 2001 إلى 2003 ما يفسر موقف الأخيرين إذ قال إن العراق عندها لم يكن يشكل خطراً على الولايات المتحدة بل على إسرائيل. من هذه الناحية فإن حرباً تؤدي إلى تدمير العراق جديرة بدعم المحافظين الجدد، كما أن قراراً يضمن استمرار خراب العراق وتفكيكه مثل حل الجيش العراقي جدير بأن يكون هدفاً يسعى المحافظون الجدد إلى تحقيقه وليس محذوراً ينبغي تجنبه.
لقد وقعت الحرب، وحلّ الجيش العراقي وعمّ الخراب العراق وجرى تفكيك واقعي له بهمة أطراف متنوعة آخرها «داعش». وهذه الحالة قد تستمر سنوات كثيرة فتقضي على المزيد من شعب العراق وطاقاته وآماله. ولكن، من جهة أخرى، لا تزال هناك فرصة لكي ينهض العراق مثل طائر الفينيق. ويعتقد كثيرون منهم أميركيون مثل الأكاديمي الأميركي لاري داياموند الذي عمل مستشاراً لقوات الاحتلال في العراق لعدة أشهر أنه لا مجال لبناء الدولة العراقية من دون مصالحة شاملة تدخلها الأطراف المدنية من المقاومة العراقية.
هنا تأتي مسؤولية نوري المالكي عن استمرار شقاء العراقيين وتدهور أوضاع بلدهم طيلة فترة بقائه في الحكم. ففي الوقت الذي كان العراق يحتاج فيه إلى زعامة تضمد جراح العراقيين وتحقق المصالحة الوطنية بينهم، عمل المالكي على إثارة وشحذ العصبيات المذهبية والحض على تأجيج الثارات والنزعات الانتقامية في ما بينهم. وفي الوقت الذي احتاج العراق إلى زعامة تنمي الديموقراطية وتعزز مؤسساتها في الحياة العامة، مشى المالكي في طريق بناء نظام استبدادي. وفي الوقت الذي كان العراق يحتاج إلى زعامة تملك المكانة الإقليمية والكفاءة العالية لترميم العلاقة مع كافة الدول العربية ولإعادة بناء البيت العربي ومد جسور الصداقة والتعاون بينه وبين الجيران، كان المالكي يدير ظهره بعيداً عن البيئة العربية، ويدعم الآخرين على حسابها. لقد كان المالكي مسؤولاً عما أصاب العراق من أضرار. ولكن المسؤولية الأكبر يتحملها البوشيون والمحافظون الجدد الذين أرادوا تدمير العراق وليس استبدال نظامه بنظام افضل.
* كاتب لبناني