أثناء الحرب الإيطالية الحبشية الثانية، وصف رئيس الحكومة الإيطالية «الفاشية» بينيتو موسوليني «عصبة الأمم» [وهم أم وأصل نشأة الأمم المتحدة] بقوله: «إن العصبة لا تتصرف إلا عندما تسمع العصافير تصرخ من الألم، أما عندما ترى العقبان تسقط صريعةً، فلا تحرّك ساكنًا»*، بعد عصبة الأمم، تابعنا بالأمس «مسخرة» مستمرة منذ ثلاثة أعوام، فالأمم المتحدّة لم تعد تتصرّف عندما تصرخ العصافير من الألم، بل وباتت تقيم مهازل دورية تحت مسمّى «مشروع قانون» في وجه طغيان النظام السوري تُدرك سلفاً أن «الفيتويْن» الروسي والصيني سيسقطهما بالضربة القاضية ، هي بالأمس تابعنا «لكمة» حطّمت وجه دول العالم وشاهدنا «الأمم المتحدة» تسقط صريعة منذ الجولة الأولى، فيما «المسخرة» المسمّاة بشّار الجعفري يرفع قبضتيْه في الهواء ويبصق في وجه العالم والشعب السوري!!
بشّار الأمم المتحدة سخر من فرنسا بالأمس وبوقاحة شديدة قال: «نطالب مجلس الأمن بمساءلة فرنسا عن جرائمها بحق السوريين خلال حقبة الاستعمار، وفرنسا هي من أدخل الإرهاب النووي الإسرائيلي إلى المنطقة»، متجاهلاً أن فرنسا هذه وانتدابها هما من اخترع «الدولة العلويّة» ورعت بطرف عينها وصول مشروعها إلى السلطة منذ العام 1967 عندما باع هذا النظام الجولان، وأعلن رئيسه لاحقاً الآتي بانقلاب عسكري في بيان رسمي «سقوط القنيطرة»، في الوقت الذي كان وزير الدفاع الإسرائيلي يؤكد أنّها لم تسقط بعد!!
أكثر من 160 ألف قتيل و9 ملايين مشرد، ونظام يرتكب جرائم القصف بشتى أنواع الأسلحة الفتاكة من البراميل المتفجرة إلى السلاح الكيميائي، والعالم غارق في صمت مطبق متواطئ وموافق على ما تشهده سوريا من تدمير لمدنها وقراها وذبحٍ لشعبها، فهل هناك «مسخرة» أكثر مما شاهدناه بالأمس، بعدما ذقنا مرارته في لبنان منذ العام 1970 و»اتفاق القاهرة» المشؤوم، عندما قرر العرب ومن ورائهم دول العالم أن يحوّلوا لبنان إلى ساحة مفتوحة لكلّ أنواع الحروب والصراعات؟!
ثم اكتملت المسخرة مع المندوبة الأميركية التي لا تستحي من تصويتها بالموافقة على قرار تحويل جرائم بشار الأسد ونظامه إلى المحكمة الجنائيّة، فتمعن في تسخيف المذبحة التي يتفرّج عليها باراك أوباما ببرودة شديدة، لتتهم سوى أميركا قائلة: «الفيتو الصيني والروسي يمنع تحقيق العدالة والتاريخ سيذكر موقف الصين وروسيا تجاه الانتهاكات في سوريا ويجب محاسبة من رفضوا إحالة ملف سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية»، ربما علينا أن نسأل: «ماذا فعلت المحكمة الجنائية الدولية عندما أصدرت قراراً باعتقال الديكتاتور السوداني عمر البشير»؟!
هل بات لزاماً علينا أن نعيد التفكير بمفهوم «السلام» كحقيقة وواقع وجوهر وقيمة وفضيلة إنسانية وإلهيّة، وربما علينا إعادة النظر أيضاً بأول طرح لمفهوم «مجتمع سلمي» للأمم الذي يعود إلى العام 1795، عندما طرح «أيمانويل كانط» كتابه «السلام الدائم: صورة فلسفية» ولخّص الفكرة في تكوين عصبة للأمم للحكم في النزاعات وتعزيز السلام بين الدول، وكانت فكرة كانط تتلخص بإقامة عالم يسوده السلام، على فلاسفة اليوم أن يعيدوا التفكير والتنظير لكلّ النظريات التي ماتت واقعياً، وأصبحت مجرّد نظريات لا تحمل في داخلها منظومة أخلاقية تترجمها؟!
كان نشوب الحرب العالمية الثانية بمثابة الدليل القاطع على فشل عصبة الأمم في مهمتها الأساس وهي «منع قيام الحروب المدمّرة»، وما أن وضعت الحرب أوزارها حتى تمّ حل العصبة، فماذا نقول اليوم عن ضرورة حلّ منظمة الأمم المتحدة بسبب عجزها عن حماية الشعوب من قتلتهم، بل يوجد في صفوف هذه الأمم من يحمي القاتل ويُـمعن في ذبح القتيل، لأن الهدف من تأسيس الأمم المتحدة جعلها أكثر فعالية من عصبة الأمم!! عندما انعقدت الجلسة الختامية لعصبة الأمم في 12 أبريل 1946 في جنيڤ، وحضره مندوبو 34 دولة، كان الهدف من انعقاد الاجتماع تصفية أصول عصبة الأمم، التي بلغت قيمتها حوالي 22,000,000 $ عام 1946، بما في ذلك قصر السلام ومحفوظات عصبة الأمم، اللذان منحا للأمم المتحدة، وأعيدت الأموال الاحتياطية إلى الدول المانحة لها، وتمت تسوية ديون عصبة الأمم، لخّص روبرت سيسيل شعور الحاضرين لهذه اللحظة من خلال خطاب وجهه إليهم، فقال: «دعونا نقول بجرأة إن الاعتداءات أينما حدثت، وكيفما تم الدفاع عنها، هي جريمة دولية، وأنه من واجب كل دولة محبة للسلام أن تستاء، وتوظف كل ما هو ضروري من قوة لسحق ذلك، وهذه الآلية من الميثاق، تكفي لهذا الغرض إذا ما استخدمت بشكل صحيح، وأن كل مواطن صالح من كل دولة، يجب أن يكون جاهزًا للخضوع لأية تضحية من أجل الحفاظ على السلام… سأتجرأ على تنبيه السامعين بأن عمل السلام العظيم، لا يريح فقط الدول القريبة في منطقتنا التي لنا مصالح معها، وإنما يرسي مبادئ الصواب والخطأ العظيمة، التي يعتمد عليها الأفراد، لقد انتهت عصبة الأمم، ولتحيا الأمم المتحدة»… يبدو أنه بات علينا اليوم أن نقول: «تسقط الأمم المتحدة» ولتحيا الشعوب المذبوحة من الوريد إلى الوريد وبرعاية الأمم المتحدة العاجزة!!