IMLebanon

مسيحنا الفلسطيني الأنطاكي

من بين جميع الصور المحفوظة لفلسطين في ذاكرتنا الروحية والثقافية، وحدها صورة المسيح، الحرّ الثائر، تجسّد معادلة المكان المغتصَب، وتختصرها. هي هي صورته مسيحاً فلسطينياً مصلوباً وقتيلاً على يد قَتَلَته، لكنْ… منتفضاً عليهم؛ ومنتصراً، لا محالة، بسلطان الحرية. كلّ استعادةٍ لهذه الصورة، كلّ تعاطٍ سابقٍ أو راهنٍ مع وقائعها ومعطياتها، يرتبطان ارتباطاً عضوياً عندنا بالحقيقة الفلسطينية المطلقة؛ وهي أن فلسطين المغتصَبة ليست حقاً مكتسباً لمغتصبيها، بل هي لفلسطينييها، ويجب استدراج كل الوقائع والمعطيات القسرية الأخرى، إلى طاولة هذه الحقيقة – المعادلة. قد ترضخ السياسات للظروف الموضوعية، أما الصورة الرمزية هذه فلا تنال منها سياساتٌ ولا ظروفٌ موضوعية. انطلاقاً من هذا المعطى، نخاطب أسقف روما الذاهب إلى أرض المسيح المغتصَبة، حيث يلاقيه في أبرشيته، “شوقاً” و”واقعاً”، المتقدّم بين الأساقفة الموارنة على كرسيّ أنطاكيا.

ها أنتما تزوران؛ أيها السيّدان الأسقفان؛ أرض فلسطين المحتلة، وما يُطلَق على هذه الأرض، في لغة الاغتصاب، من تسميةٍ تَعَارَفت عليها “عدالة” العالم بأنها “دولة إسرائيل”؛ وذلك في غمرة ما يواجهه مسيحيو المنطقة العربية، والعرب جميعاً، من مآسٍ ومحنٍ وظلمات، وما يعتري مستقبلهم من قلقٍ جمٍّ على الوجود والمصير.
لا نجدنا في حاجةٍ إلى تذكير الزائرَين، بل فقط مَن يُستحسَن تذكيره، بأن ليس للصهيونية إرثٌ في فلسطين. نعتقد أن هذه المسألة يجب أن تكون واضحة، تاريخياً وسياسياً وواقعياً و… فلسفياً، وضوح الأيدي التي دقّت المسامير في جسد فلسطين. وهي جسد المسيح رمزاً.
لا نخفي القرّاء أننا نشعر بـ”ضعف” حيال أسقف روما. حتى لنرانا نخاطبه لا كرأسٍ للكنيسة الكاثوليكية في العالم؛ إنما كصديق. بل أكثر: كصديقٍ عتيق، يستحضر نموذجُه عندنا، أكثر ما يستحضر، صديقنا الأحبّ والأعزّ والأغلى والأعتق، الذي تعود علاقتنا به إلى ألفين وأربعة عشر عاماً، بالتمام والكمال.
لأسقف روما أن يرى ما يراه، في شأن هذه الزيارة؛ آخذاً في الاعتبار جملةً من الحقائق الدينية، والوقائع والمعطيات التاريخية والوطنية، ومعها جملةٌ من القضايا والاعتبارات اللاهوتية والعقائدية، ليس أقلّها أنه خليفة بطرس، وأنه وارث تاريخٍ طويلٍ وشائك، من صدامات الإيمان والحضارة والقيم والثقافة والعقل، بين اليهودية والمسيحية؛ فضلاً عما يستدعيه وجود المسيحية في الشرق خصوصاً، وفي العالم كله، معاً وفي آنٍ واحد، من دفاعٍ حتى الشهادة عن قيم الحقّ والعدل والحرية، وما يتطلّبه من خبرة التآخي والسماح ورحابة التلاقي بين المسيحية والإسلام.
لأسقف الكرسي الأنطاكي الماروني الذي يزور مرامي كرسيّه، شوقاً وواقعاً، في فلسطين المسيح، أن يرى ما يراه؛ لكنْ أيضاً بعيون أسلافه على السدّة الأنطاكية؛ وله أن يتكلّم بلغته؛ لكنْ أيضاً بلغة عقولهم وقلوبهم وألسنتهم وأيديهم وهواجس منعتهم؛ وله أن يتطلّع إلى ما يرتئيه من مخاطبات؛ لكنْ خصوصاً ما تفرضه مهابة السدّة من معايير الاقتصاد في التعبير والتحفّظ في إبداء المشاعر والانفعالات؛ فيستخلص خطابه من بلاغة الصامتين وعبقرية المتكلمين، ويجسّد التوق في عيون الأحرار؛ فيتوق إلى ما يتوقونه، ويفكّر في ما تفكّر فيه عقولهم، ويهجس بما تهجس به قلوبهم، مرتقياً إلى شجون العرب الأحرار، ومسيحيي لبنان والشرق؛ وهو المؤتمَن روحياً على أرضٍ أنطاكيةٍ، كانت ولا تزال، ويجب أن تبقى، أرضاً للمسيح، وأرضاً لفلسطين هذا المسيح الحرّ الثائر، مغسولةً من كلّ عارٍ صهيوني، ومن كلّ استسلامٍ عربي. هل نذكّره، بأنه مؤتمَنٌ روحياً على شعبٍ، اصطفى لنفسه خياراً واحداً وحيداً، يتمثّل، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، بحرية الانعتاق من كلّ ربقةٍ استبدادية؛ شقيقةً أكانت أم صديقةً أم حليفةً؛ فكيف بربقة “دولة إسرائيل” وبريقها العنصري الصهيوني المقيت؟!
ليس لنا، أن نُملي على السيّدين، الأسقف الروماني والأسقف الأنطاكي، ما نستسيغه وما لا نستسيغه في هذه الزيارة، التي، شخصياً، يُمِضّنا شقّها الأنطاكي الماروني، بصفتنا مواطنين، لبنانيين، عرباً، وأصدقاء معتّقين بالوجدان القلبي، لمسيح فلسطين الأنطاكية، الحرّ الثائر أبداً.
وإذا كنا لا نستسيغ الزيارة، فبسبب المستنقع الصهيوني – العربي؛ الاستبدادي الظلامي؛ الذي نحن فيه، لا لعلّةٍ فيها.
وإننا لا نخطّئها، ولا نتّهمها، البتّة، بأنها تطبّع مع الكيان الصهيوني، وتساهم في ترسيخه.
هذا الاتهام، وكلّ اتهامٍ مماثل، يقع في صفاقة الاعتداء على وجدان المسيح الفلسطيني الأنطاكي الحرّ الثائر؛ مثلما يقع في صفاقة الاعتداء على الكفاح المسيحي الروحي، الفكري، الثقافي، الحضاري، المعنوي؛ مثلما يقع، في الآن نفسه، في صفاقة السياسة؛ وهذه كلها دون طبائع الوجدان المسيحي الأنطاكي السرياني الماروني، ودون نزاهة الكفاح، ودون ثقافة السياسة؛ في حين أن مسألة فلسطين المسيح هي قبل السياسة، وبعدها؛ أي أنها في الجوهر الفلسفي للمعنى.
هي تُمِضّنا؛ لكننا نرى أن ليس من حقّ أحد أن يكون ضدّها، لأنه يكون يعطّل آنذاك جوهرها، ويكون جزءاً من آلةٍ تُخضِع المعنى للترويج والاستعراض، وتُفقده فلسفته.
كلّ ترويجٍ، كلّ استعراضٍ، ها هنا، ينقلان مسألة فلسطين المسيح، من كونها مسألة حقٍّ مطلق إلى كونها عملاً يقع في المستنقع؛ مستنقع الاعتداء على وجدان المسيح الأنطاكي، وهو نفسه مستنقع السياسة التعبوية الصهيونية، والسياسة التعبوية الممانِعة المضادّة، الفارغة من كلّ مضمون.
هذا النوع من العمل السياسي التعبوي الاستنقاعي، يجعلنا، بقوة التجاذب، على طرفٍ موازٍ للمغتصِب؛ ونحن لا نطيق هذا المغتصِب، مطلقاً، فكيف نطيق أن نكون معترفين به، ومُوازين له؟
إذا كنا لا نستسيغ مثل هذه الزيارات، غير الخاضعة عندنا للاتهام، فهل يمكننا أن نستسيغ الخطاب الترويجي الاستعراضي ضدّها، الذي ينزع عنها جوهرها، ويجعلها سلعةً في هياكل الصيارفة والتجّار؟!
لسنا عنصريين. لكننا لا نتحمّل عنصرية المغتصِب. هل نضطر أن نتحمّل، تحت وطأة هذا الابتزاز العنصري الصفيق، أن “يُباع” موقفنا المبدئي هذا، في عملية الاستغلال الصهيوني من جهة، والتسويق المضادّ من جهة ثانية، التي يمارسها طرفان، لا نقبل أن نكون أحدهما؟
هذان الطرفان، الأول الصهيوني من جهة، والثاني الترويجي الاستعراضي الممانِع، من جهة ثانية؛ لا نتحمّل أن نكون أحدهما.
نحن قَبْلهُما. ونحن بَعدَهُما. نحن فلسطين الفلسطينية العربية الأنطاكية المصلوبة الثائرة، ويجب أن أنزل عن الصليب، وأن أُحرَّر، وأُستعاد، بقوة الجوهر الخلاّق الحرّ الثائر؛ بقوة شروطه ومعاييره، لا بمداهنات السياسة الدولية الغاشمة، ولا بالتسويات المهينة، ولا أيضاً بخطاب الترويج والاستعراض الممانِع.
أيها السيّدان الأسقفان؛
تعاني دول الشرق، وفي مقدّمها فلسطين؛ لبنان؛ سوريا؛ العراق، مصر…؛ ما تعانيه من فنون الاحتلال والاستبداد والاستعباد والعنصرية والتخلف.
تعرفان تماماً أنه لم يعد ثمة مسيحيون في فلسطين، إلاّ القليل النادر منهم، بسبب الكيان الصهيوني الذي احتلّ الأرض، واغتصبها، وطرد أهلها، وهو الآن “يهوّدها” بطريقة عنصرية فاقعة، على مرأى من “العدالة” الدولية، والصمت العربي المتواطئ (ومحور الممانعة!)، وعلى مسمعٍ منها.
يحصل هذا، في وقتٍ لا يكاد يبقى مسيحيٌّ في العراق؛ وفي وقتٍ يواصل مسيحيو سوريا، ولبنان، والأردن، ومعهم مسيحيو مصر، الهجرة النازفة؛ الطوعية ظاهراً، لكن القلقة الهاربة ضمناً.
حتى ليتصوّر المرء، مستقبلاً افتراضياً، أبوكاليبتياً، يخلو فيه هذا الشرق، قريباً جداً، من مسيحييه.
فأيّ افتراضٍ أدهى من هذا الافتراض، يُرى فيه هذا الشرق، الذي هو أرض المسيح، والمسيحية الأولى، وقد أصبح أرضاً لا تطيق أن ترحب صدراً ومكاناً بالمسيحيين؟!
تتعدّد الأسباب؛ في مقدّمها اليد الصهيونية الغاصبة، تواكبها وتؤازرها يد الاستبداد السياسي والأمني والعائلي الديكتاتوري، ويد الاستبداد الظلامي الديني. وهما يدان توأمان.
أما النتيجة فواحدة: تفريغ الأرض من مسيحييها.
هذه ليست إهانةً لوجدان المسيح، وللمسيحية فحسب؛ بل هي عارٌ، كيف يتحمّله أهل الممانعات الفارغة، لكن الملأى باستعراضات الترهيب الفكري والمادي، والابتزاز الديني، والرياء السياسي، والتجارة الرخيصة، والصفاقة العارية؟
الصهيونية ومريدوها، سيكونان في العيد العظيم، عندما “يتحرّر” الشرق من المسيح الفلسطيني الأنطاكي، ومن مسيحييه.
أيبتغي السادة الممانِعون أن يعيّدوا مع الصهيونية عيد “التحرير” هذا؟!
ليس عندنا ما نضيفه في هذا الصدد، لا إلى الأسقفَين الزائرَين، ولا إلى أهل الممانعة.
فليذهب صديقنا فرنسيس إلى حيث يريد. نرجو له أن تظلّ تعصمه جروح مسيح فلسطين، وهو يمشي في الأرض التي تغمرها الآن ظلاميات الصهيونية الغادرة.
أما الزائر الأنطاكي فله نواحي أنطاكياه المارونية، شوقاً وواقعاً. فليزدها منعةً ورسوخاً وحرية؛ وليهجس بما كان يهجس به “ملفان” الكنيسة الأنطاكية، العلاّمة اللاهوتي الشاعر الخوري ميشال الحايك في قوله: “أنـــا آرامــــي ســــريـــانـــي مــــارونــي أنــطـــــاكــي بــيــــزنــطـــي رومـــــانـــي لــبـــــنــانـــي عــــربـــي إنــســـــانـــي”.
بمثل هذا الهجس الزائر، لا بدّ أن يجد أنطاكيو فلسطين عزاءً وبلسماً وحضّاً على الرسوخ في الأرض. هذه هي رسالتهم الفلسطينية الأنطاكية. وهذه هي حقيقة مسيحهم الفلسطيني الأنطاكي.
ألا يجب أن نقول: بهذا الرسوخ وحده يُنزِل الراسخون في الأرض الفلسطينية، مسيحهم الفلسطيني الأنطاكي من عن صليبه؛ في فلسطين، وفي سواها من أمم العرب الموجوعة؛ ليعود حرّاً، كما يليق بالحرية أن تستقبل مسيحها!