IMLebanon

مشكلات لا يختصرها الإرهاب

لم يستنفد اللاعبون في صراعات المنطقة أهدافهم وطاقاتهم كي تشهد هذه التطورات والمفاجآت المفتوحة على مزيد من الاحتمالات. ما قيل عن «اتفاقية كيري ـ لافروف» كسقف وإطار للصراعات الدولية لم تظهر جدواها وفاعليتها الكاملة في المنطقة، وسرعان ما تم تجاوزها في الأزمة الأوكرانية.

المراهنون على الدور الروسي الدولي الكابح للأميركيين ليس لديهم الآن الكثير من الحجج المقنعة. أما الذين «استبشروا» بالحوار الأميركي الإيراني كي يستنتجوا أن إيران «سيدة الشرق الأوسط» ومحور النظام الإقليمي الجديد فهم كذلك في خيبة شديدة، أو يجب أن يكونوا كذلك بعد صدمة الانقلاب في الوضع العراقي.

لم نعد طبعاً إلى المربع الأول الذي بدأت فيه أزمة المنطقة مع الانتفاضات العربية، لكن مظلة أميركا التي جمعت كل «المتعهدين لمحاربة الإرهاب» تبقى هي المرجعية الأساسية لهذا «التصنيف» ولتوزيع الأدوار على اللاعبين المحليين. علاقة أميركا بالإرهاب مثل علاقة شركائها الجدد الذين لهم باع طويل في استثمار وإدارة هذا الملف بالصورة الانتهازية المعروفة. فمن المؤكد أن الإرهاب جزء من المنظومة الدولية متعددة الجنسيات والعابرة للقارات ومن أدوات الحروب المعاصرة.

على أي حال إن حجم المتغيّرات التي حصلت في الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا، ولا سيما الانهيار السريع للنظام الإقليمي، ما كان يمكن استيعابه حتى من قبل القوى الدولية المتدخلة في هذا الانهيار. طبيعة القضايا والمشكلات التي طرحتها الشعوب لا تختصرها مسألة سقوط نظام هنا أو هناك. كانت المنطقة حبلى بأزمات ديموغرافية وجغرافية وقضايا قومية وإثنية وأقليات وأديان وطوائف ونزاعات إقليمية وتراكم غير محدود من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المزرية ومن غياب ثقافة الحرية وحقوق الإنسان. انفجرت كل هذه الأوضاع دفعة واحدة حتى صار على القوى التي تخشى هذا «الوضع الثوري» أن تلعب معاً بالعنف وتتعاون معاً على إدارة الفوضى وتصفية «الوضع الثوري» أو مخاض التغيير السلمي الديموقراطي.

لقد صار تمويهاً وتواطؤاً فاضحاً الحديث عن معركة الإرهاب لتغيير مجرى الأوضاع ولمصادرة القضايا السياسية والاجتماعية فضلاً عن قضايا الحريات. غرقت المنطقة في نزاعات إقليمية ودولية في كل البلدان التي شهدت حراكاً شعبياً وانتفاضات سياسية وجرى إخضاعها للمعايير نفسها وتشريع التدخل الخارجي المباشر في شؤونها (اليمن، البحرين، ليبيا، تونس، مصر، سوريا، العراق…) بحيث لم يعد في أي مكان للمواجهة طابع معركة الحرية والكرامة والعيش. أولوية الأمن سادت الخطاب السياسي الرسمي الإقليمي والدولي حتى في أكثر البلدان التي شهدت تحركات سلمية ولم تتهددها الانقسامات الأهلية كمصر وتونس.

ولعل المشهد الذي انتهى إليه الوضع العربي من تراجع لدور المعارضات الشعبية والانتفاضات السياسية لكي يصير مشهداً حربياً أهلياً وإقليمياً هو الدليل على تعاون قوى وأطراف «الثورة المضادة» على إخماد هذه الحركة التاريخية العربية وإخضاعها لتقاسم النفوذ الخارجي.

انتهت الآن كل الأطراف الفاعلة إلى مصب دولي كبير تتطلع إليه الدول كما الحركات السياسية لكي يكون هو المنقذ لها من ورطة هذه الفوضى. وبعد أن كان الطموح الرسمي أو الشعبي هو إزالة أو الحد من الهيمنة الأميركية، صار خطب ودها مطلباً في كل مكان ودعوتها إلى التدخل المباشر هدفاً مجرداً عن نيات التبعية أو التفريط بالسيادة أو بالحرية.

لكن ذلك كله يجب ألا تغطيه ذريعة النزاعات الجيوسياسية أو الحروب الإقليمية ولا المصائر المشروعة حيناً وغير المشروعة غالباً للجماعات الطائفية، فالدول والحركات التي شاركت في هذه الكارثة المتمادية آن لها أن تراجع هذه السياسات وأن تسعى جدياً لوقف الحروب التدميرية من أجل أوهام السيطرة. هناك حقيقة مؤكدة أن الحرب دارت على أرض العرب وبينهم وبين شركائهم التاريخيين في المنطقة وأن القوى الدولية الكبرى لم تخسر في هذه الحرب بل استثمرتها ولا تزال، وأن وقودها من شعوب هذه المنطقة وثرواتها.

لا نعرف طبعاً أين يمكن لهذه النزاعات أن تصل بعد أن سقطت الكثير من إمكانات الاحتواء عسكرياً وسياسياً. فالقصف الجوي الأميركي والطائرات من دون طيار، أو الخبراء العسكريون أو سوى ذلك من أي جهة أتى لا يغيّر في طبيعة الميدان. وما أفلت من عقاله عبر انتشار الميليشيات المسلحة في جميع مناطق العراق لا يمكن السيطرة عليه إلا بحل سياسي يستوعب القوى السياسية قبل القوى الأمنية. إن جزءاً مهماً من مناخ العراق وبلاد الشام هو عدم شرعية القوى العسكرية في بلدان هذا الإقليم. فهل بات علينا البحث عن مؤتمر دولي لإخراجنا من حالة التوحش التي قادتنا إليها كل تيارات الإسلام السياسي؟