IMLebanon

مصر استعادت الملف الفلسطيني والقيادة الإقليمية

تتداخل الأدوار المصرية – السعودية – الإماراتية في ملفات متحركة تشمل فلسطين وليبيا والعراق وسورية واليمن وتشكل الشراكة الثلاثية هذه خياراً استراتيجياً مهماً له أبعاد اقليمية ودولية. أول تلك الأبعاد ان هناك عزماً على استعادة موقع عربي في موازين القوى الإقليمية، ويبدو جليّاً ان الشريكيين الخليجيين يجدان في مصر المؤهل الطبيعي لذلك الدور وهما يدعمانها في ذلك. البعد الثاني ان التكامل بين مصر والدولتين الخليجيتين له تأثير مباشر في صنع القرارات المعنية بالمستقبل العربي ذاته، وليس فقط في الوزن العربي في موازين القوى الإقليمية. ولهذا البعد شقّان: أحدهما يصب في خانة مواجهة المشاريع المتعددة الأطراف والأصناف ومن ضمنها مشاريع «الإخوان المسلمين» الطموحة سياسياً ومشاريع «داعش» التي تعصف كالصاعقة بالمنطقة العربية بأهداف تدميرية لا تستثني أحداً. الشق الآخر ينطبق على الملفات الساخنة والنزاعات القائمة التي لكل من ايران وتركيا أدوار فيها بنسب وغايات مختلفة، وكذلك على الملف الفلسطيني حيث تثبت اسرائيل انها ليست راغبة في حل الدولتين بل عازمة على حلول بديلة مثل الحل الديموغرافي للدولة اليهودية النقيّة.

فلسطينياً، واضح ان مصر لعبت دوراً أساسياً في التوصل الى الهدنة وأن «حماس» وشركاءها الإقليميين اضطروا الى الموافقة على المبادرة المصرية بعدما عاندوا ضدها ورفضوها. مصر، اذن، استعادت دورها القيادي فلسطينياً وحرصت على ان تستعيد السلطة الفلسطينية دورها الرئيسي في مصير القرار الفلسطيني كي لا يُترك القرار لغيرها بكلفة غالية يدفعها الفلسطينيون وليس المستقطبين والمستفيدين من القضية الفلسطينية.

في أفضل الحالات، يمكن القول إن استراتيجية «حماس» ورّطت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو واستدرجته الى ارتكاب أخطاء أملتها عليه عجرفته التي ازدادت نموّاً بالدعم الشعبي الإسرائيلي للحسم العسكري ضد «حماس» في حرب غزة الأخيرة.

يمكن القول أيضاً ان صواريخ «حماس» التي ضربت مطاراً اسرائيلياً وأدت بشركات الطيران الى وقف رحلاتها الى اسرائيل شكّلت انجازاً جديداً من نوعه على الساحة الفلسطينية – الإسرائيلية. هذا بالإضافة الى الكلفة العسكرية لإسرائيل بما فيها مقتل عدد كبير من الجنود الإسرائيليين الذين نفذوا عملية اجتياح غزة – وهذا يُعتبر نصراً عسكرياً سيما وأن الحرب دارت بين «حماس» ودولة متفوقة عسكرياً. السلطة الفلسطينية استفادت كأمر واقع وهي على عتبة قرارات جديدة تنوي اتخاذها في أعقاب حرب غزة الثالثة. لم يكن في ذهن «حماس» اعطاء السلطة الفلسطينية زخماً اقليمياً ودولياً، ولم يكن ما فعلته «حماس» في حرب غزة جزءاً من توزيع أدوار مع منظمة «فتح» أو مع السلطة الفلسطينية.

في هذه المرحلة، لم تحصل «حماس» على ما كان في ذهنها عندما دخلت حرب غزة الثالثة ولم تكسب اسرائيل ما جنّدت نفسها لكسبه. كلاهما خاسر يزعم الربح. وهذا ما حدث في كل حروب اسرائيل مع المنظمات التي تحدتها، فاستخدمت القوة المفرطة الهمجية ضد المدنيين والبنية التحتية تاركة وراءها آلاف الضحايا والدمار. خسرت اسرائيل تعاطفاً غربياً تقليدياً معها سيما بعدما فضحتها وكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة «الأونروا» لارتكابها جرائم ضد الإنسانية. وخسرت «حماس» ما كانت تصبو اليه سياسياً وكذلك خسرت قيادات فيها ودمِّرت انفاقها. وأكبر خسارة هي خسارة ارواح أكثر من ألفي مدني فلسطيني وتدمير المنازل.

كلا الطرفين يزعم ما يزعمه من ربح وهناك ذخيرة لتلك المزاعم. لكن الانتصار بعيد جداً عن المعادلة. هدنة اليوم ستليها المفاوضات الأعمق التي تتطلب التنازلات الجدية. عندئذ ستلعب الديبلوماسية المصرية القديرة أدواراً تعمّق استعادتها القيادة العربية في الملف الفلسطيني بدعم من شريكيها السعودي والإماراتي. فمصر أخذت زمام هذه القيادة بقرار فلسطيني اضطرت له «حماس» وتلقته السلطة الفلسطينية التي عليها الآن ان تثبت الجدارة السياسية.

اقليمياً، سُحِب الملف الفلسطيني من سورية الذي أدارته دمشق كما شاءت لسنوات عديدة. اليوم، استعادت مصر الملف الفلسطيني واستعادت معه القيادة الإقليمية. ولهذا التطور انعكاسات على اكثر من ملف، بما في ذلك لبنان حيث الإدارة السورية للملف الفلسطيني أدت الى استخدام لبنان نقطة انطلاق عسكرية لغايات متعددة منها ما لا علاقة له من قريب أو بعيد بالقضية الفلسطينية.

المعادلة المصرية – السورية ملفتة على صعد عدة والمقارنة بين البلدين منذ اندلاع التغيير في المنطقة العربية ملفتة. مصر اليوم في صعود بعدما اقالت رئيسين تحاكمهما شعبياً وقضائياً وهي تتعافى داخلياً وتستعيد المكانة الإقليمية والدولية. سورية اليوم في انحدار تدفع ثمن المعاندة بتدمير رهيب للبلاد تواجه التمزّق والتفتت وهي خسرت القيادة الإقليمية وباتت عنوان «مكافحة الإرهاب» وصنعه على أيدٍ متعددة في النظام الحاكم والمعارضة المستوردة على السواء.

دمشق تستدعي التدويل كفرصة للتأهيل. انها تريد استدراج الرئيس باراك أوباما الى سورية في اطار الحرب على الإرهاب فيما يسعى «داعش» الى استدراج الرئيس الأميركي الى الساحة السورية والعراقية معاً.

باراك أوباما في مأزق وربما في ورطة اذ انه لن يتعاون علناً مع الرئيس السوري بشار الأسد الذي وصفه بأنه افتقد الشرعية ودعا الى تنحيه. التعاون الاستخباراتي شيء آخر وهذا التعاون قائم بين دمشق والأجهزة الاستخباراتية الغربية منذ زمن. الفارق كبير بين التعاون السري والتعاون العلني. فالأول مطلوب غربياً والثاني مطلوب سورياً كمدخل للتدويل والتأهيل. مهما كان، ان اجراءات الرئيس الأميركي نحو «داعش» سورية الأرجح ان تختلف عن تلك ضد «داعش» العراق. فليس هناك مؤشرات تفيد بأن السياسة الأميركية انحرفت عن التمسك بتحويل سورية الى مقبرة الجميع فيها – جميع من يتقاتل وجميع من يدعم ويتبنى القتال.

وليس هناك أيضاً أي مؤشر إلى تدخل أميركي جذري في سورية باستثناء الطائرات الاستطلاعية والطائرات بلا طيار drones. بالتأكيد، مثل هذا التدخل المحدود يبقى فائق الأهمية لكنه لن يشكّل الشراكة الرسمية العلنية التي دعا اليها وزير الخارجية السوري وليد المعلم. الأرجح ان باراك أوباما سيتجنب ما يورطه أعمق وأكثر عبر انشاء علاقة تهادنية مع دمشق لأن ذلك يُحاسب عليه داخلياً. وكما قال، ان المعركة مع «داعش» وأمثاله معقدة وطويلة طالما ان هناك سياسات تغذّيه وتؤدي الى بيئة حاضنة له.

الرئيس باراك أوباما ارتكب خطأين جذريين في سياساته نحو الشرق الأوسط – بتنصله من الحدث السوري وامتناعه عن الانخراط بما ساهم في إنماء الإرهاب وتفتيت سورية… وبتشوقه العارم الى تبني «الإخوان المسلمين» في مصر وتسرّعه الى الافتراض ان شعب مصر سيتقبّل فرض الدين على الدولة والمشروع «الإخونجي» وأن الدول الفاعلة الأخرى سترضخ أمام خياره الاستراتيجي الخاطئ والفاشل.

الديبلوماسية السعودية أبلغت باراك أوباما بكل وضوح ان مصر تشكّل خطّاً أحمر. تحركت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية فوراً لدعم مصر في أعقاب المحاكمة الشعبية للرئيس محمد مرسي الذي افترض حزبه ان الانتخابات التي أتت به الى السلطة أعطته صلاحية ابتلاع كل مفاصل الحكم في مصر.

التحرك السعودي بوفد رفيع المستوى يرأسه وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل الى الدول الخليجية بدءاً بقطر تحرك مهم سيما على ضوء اندلاع الملفات الى سخونة خطيرة بالذات في ليبيا واليمن الى جانب العراق وسورية.

قطر تشكل رقماً صعباً في العلاقات الخليجية – الخليجية كما في العلاقة مع مصر الى جانب اتهامها بدعم مشروع «الإخوان المسلمين» الممتد من مصر الى تونس الى ليبيا الى سورية وغيرها. نتيجة التحرك السعودي ليست معروفة بعد لكن التحرك العلني بحد ذاته يفيد بأن هناك جديداً على الساحة. وقد أتى ذلك التحرك أيضاً في أعقاب زيارة مهمة قام بها نائب وزير الخارجية الإيراني الى الرياض.

ليبيا وصلت مرحلة الخطر الفاقع هذا الأسبوع وباتت تتطلب تدخلاً غير ذلك الذي قامت به قوات حلف شمال الأطلسي (ناتو) بمشاركة خليجية ما لبثت ان تحوّلت الى خلافات بسبب ما آل اليه الدور القطري في ليبيا. ليبيا باتت على عتبة تزاوج حرب أهلية وقبائلية وتنظيمات ارهابية بدائية ومتطورة.

ليبيا في حاجة الى إنقاذ قبل أن تتحول إلى جحيم يصدّر نيرانه الى الدول المجاورة. وهذا الإنقاذ يبدو مستحيلاً من دون تدخل مصري وجزائري من نوع أو آخر – فكلاهما معني مباشرة بسبب الحدود المتاخمة لليبيا وهما أهم دولتين عربيتين – أفريقيين تنافستا دوماً سابقاً لكن ما يجمعهما الآن ان التيارات الإسلامية المتطرفة في ليبيا هي خصم مشترك بينهما معاً.

ما ذُكِر عن طائرات إماراتية في عمليات عسكرية في الأجواء الليبية نال تسرّع واشنطن الى الاعتراض قبل ان تعود وتأكل كلماتها لاحقاً. فاللاعبون الذين يريدون إنقاذ ليبيا ليسوا اللاعبين التقليديين بل هم اليوم تشكيلة مهمة من جيران ودول خليجية وقطاع خاص من المنطقة العربية. أوروبا هرولت من ليبيا متأبطة الولايات المتحدة غير مكترثة بما خلفته العمليات العسكرية ولا بما تطلبته المشاركة الفعلية في بناء المؤسسات والبنية التحتية.

ليبيا اليوم باتت مشكلة عربية وأفريقية. وليبيا لن تتعافى من دون الشراكة المصرية – السعودية – الإماراتية أو بعيداً من التعاون المصري – الجزائري. في غياب ذلك، ان ليبيا مرشحة للتشرذم والتمزق والانهيار.

اليمن موضوع آخر تتداخل فيه حرب أوباما على الإرهاب عبر الطائرات من دون طيار مع دعم إيران للحوثيين مع اصرار «الإخوان المسلمين» على فرض أنفسهم على السلطة مع تناحر القبائل مع الفساد. اليمن أيضاً يشكل سكّيناً في خاصرة السعودية ويتطلب منها مواقف وإجراءات. فهذه الدولة محطة أخرى في المحطات المرشحة اما لتفاهمات سعودية – ايرانية أو لمواجهات غير مباشرة كما حدث في العراق وسورية ولبنان.

المؤشرات إلى تفاهمات سعودية – إيرانية أتت عبر البوابة العراقية وإزالة عقدة نوري المالكي بإزاحته عن السلطة، تبعتها الزيارة الرفيعة للوفد الإيراني الى الرياض. المؤشرات إلى مواجهات أتت عبر البوابة اليمنية عندما صعّد الحوثيون تصعيداً كبيراً يهدد البلاد.

الثابت أن هناك علاقة استراتيجية سعودية – مصرية – إماراتية ذات أبعادٍ إقليمية مهمة تستحق التقدير أقله لما تمثله في مشاريع موازين القوى الإقليمية ومشاريع التيارات الإسلامية المتطرفة.