IMLebanon

مصر تُدخل «رجل الظلال» إلى قصر الاتحادية

خلال مدة لا تتعدى السنتين، اشترك الشعب المصري (86 مليون نسمة) في انتخاب رئيسَيْن. الانتخابات السابقة جاءت بمحمد مرسي رئيساً وممثلاً لجماعة «الإخوان المسلمين» بغالبية ساحقة، وانتخابات هذا الأسبوع جاءت بعازِله وزير الدفاع السابق عبدالتفاح السيسي.

ولكن عملية الاقتراع هذا الأسبوع أصيبت بانتكاسة غير متوقعة بسبب حرارة الطقس التي أجبرت أعداداً كبيرة من المنتَخبين على العزوف عن الوقوف في طوابير الانتظار. لذلك اقترح الرئيس الموقت عدلي منصور، تمديد فترة التصويت يوماً إضافياً بحجة منح المواطنين فرصة أخرى، علماً بأن نيته الحقيقية تكمن في إتاحة الفرصة للمرشح السيسي بأن تتخطى نسبة مؤيديه 26 مليون صوت، تلك التي استند إليها محمد مرسي في دورة تموز (يوليو) 2012 لتكريس شرعيته، أي ما يساوي نصف عدد المؤهلين رسمياً للاقتراع في مصر (54 مليون نسمة).

ويبدو أن المرشح الآخر حمدين صباحي قد اكتشف الهدف الحقيقي من وراء تمديد فترة الانتخاب، وكيف تعمل لصالح منافسه. والدليل أنه هدَّد بالانسحاب لسبب يتعلق بعجزه عن تأمين أجور إضافية لـ 14 ألف مندوب منتشرين في كل مراكز الاقتراع.

وبالفعل، نفد الانسحاب عدد من المندوبين، الأمر الذي استخدمته جماعة «الإخوان» لتكرار دعوتها إلى مقاطعة الانتخابات باعتبارها من الأعمال الباطلة.

ويرى المراقبون الدوليون أن غياب بعض مندوبي المرشح الناصري حمدين صباحي لا يشكل مادة للطعن. والسبب أن عملية الرصد تُمارس بواسطة العشرات من مراقبي البعثات الدولية المشتركة والجامعة العربية، وبعثة مراقبي الاتحاد الأوروبي، وهذه كلها تمثل قوة مؤلفة من 2490 مراقباً جرى توزيعهم على مختلف مراكز المحافظات.

الشيخ يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، شجب سلوك المجلس العسكري، الذي نجح -برأيه- في الالتفاف على الثورة التي صنعها الدكتور محمد مرسي. ودعا، من مكان إقامته في قطر، إلى مقاطعة «انتخابات الدم» ومقاومة المرشح الذي خلع الرئيس الشرعي.

وردّ على موجة المقاطعة مفتي الجمهورية الدكتور شوقي علام، الذي انتقد الآراء الباطلة التي تحرِّم المشاركة في الانتخابات. وشدد المفتي في كلمته إلى الشعب على أهمية المشاركة، دحضاً لافتراءات المحرضين على الفوضى، ومنعاً لبث الفتنة وروح الفرقة.

المهم من كل هذا، أن سقوط مرشح الناصريين حمدين صباحي لم يمنع استئناف حكم العسكر الذي دشنه جمال عبدالناصر سنة 1952 بإعلان ثورة أسقطت الملكية. وتعاقب من بعده على الحكم ضابطان هما أنور السادات وحسني مبارك.

والثابت أن الفترة القصيرة التي حكم فيها محمد مرسي كانت تمهد لإلغاء دور العسكر وتثبيت نظام شبيه بنظام الجمهورية الإسلامية في إيران. ولقد تضمن الدستور الأول فقرات منقولة من توجيهات الإمام الخميني.

ومن المؤكد أن فوز رئيس الاستخبارات الحربية السابق عبدالفتاح السيسي (59 سنة) سيشكل حلقة جديدة في سلسلة الضباط الذين تناوبوا على حكم مصر أكثر من نصف قرن.

ويرى المراقبون أن هذا الفوز الساحق (91 في المئة) كان بمثابة المؤشر السريع والموقت لمزاج شعب مصر تجاه ضابط أنقذهم من حكم «الإخوان المسلمين»، كما أنه من جهة أخرى، يعبِّر بالأرقام عن عمق الكراهية التي يكنّها الناس لـ «الإخوان»، وفي الحالتين يؤمن السيسي بأن نجاحه في الحكم يتوقف على قدرته وقدرة المؤسسة العسكرية التي دعمته على ترجمة هذا التفويض إلى أعمال ملموسة وتطلعات محسوسة.

ومن هذا الواقع، يطل سؤال التحدي على المرشح الآخر حمدين صباحي، وما إذا كانت النسبة الضئيلة التي نالها تؤهله لمواصلة القيام بدور المعارِض الأول أم لا.

وعلى الرغم من النتيجة الهزيلة التي نالها، فإن السياسيين في مصر يمدحون الجرأة التي يتمتع بها صباحي، كونه قبِلَ التحدي ولم يهمِّش نفسه كما فعل عمرو موسى ومحمد البرادعي.

ويتوقع «الإخوان» أن يعوِّض الشعب على القيادي الناصري في معركة الانتخابات النيابية، في حال قدَّم البرهان على استمراره في قيادة المعارضة المنظمة عبر «التيار الشعبي» و «جبهة الإنقاذ الوطني».

أما بالنسبة إلى مستقبل عبدالفتاح السيسي، فإن الإشاعات تملأ الأندية السياسية في القاهرة والإسكندرية حول احتمال بقائه في السلطة، أو احتمال التنازل عن موقعه لشخص مدني.

على هذين الاحتمالين تجيب مصادر المؤسسة العسكرية بأن البرامج السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي طرحها السيسي طوال السنة الماضية، مرتبطة عملياً بشخصه. وعليه، فهي تتصور أن الملف الأمني سيكون في مقدم أولويات الرئيس القادم من وزارة الدفاع. وبما أنه سيباشر مهماته بمحاكمة الرئيس محمد مرسي، فإن جماعة «الإخوان» تفضّل جهود المصالحة مع السلطة مقابل التوقف عن عمليات الاغتيال والتظاهر واستنفار الشارع.

ومع أن السيسي يعتبر البطالة في طليعة اهتماماته، إلا أنه لم يتطرق إلى وسائل المعالجة، علماً بأن المديونية الداخلية تعدّت الـ236 بليون دولار. وتعود نسبة كبيرة من هذا العجز إلى فاتورة دعم الخبز والوقود التي تلتهم قرابة 30 في المئة من الموازنة.

تقول مصادر البنك الدولي إن ديون مصر الخارجية بلغت 46 بليون دولار في نهاية سنة 2013، بينما انخفضت الاستثمارات الخارجية إلى بليوني دولار سنوياً خلال السنوات الثلاث الأخيرة. وقد وصلت إلى أكثر من 12 بليون دولار قبل إسقاط الرئيس حسني مبارك. كذلك تراجعت عائدات السياحة بمقدار النصف تقريباً، كونها لم تحقق سوى 6 بلايين دولار السنة الماضية، مقابل 13 بليون دولار سنة 2010.

وكان من الطبيعي أن ينعكس ذلك الواقع في تراجع احتياطي مصر من النقد الأجنبي بمقدار النصف تقريباً ليعود وينخفض من 36 بليون دولار قبل ثورة 2011 إلى قرابة 17 بليون دولار، على رغم المساعدات المقدمة من السعودية ودولة الإمارات والكويت، والتي بلغت أكثر من 13 بليون دولار منذ الإطاحة بمحمد مرسي. ولقد اعترف السيسي في مقابلة بُثت مطلع هذا الشهر، بأن المساعدات الخليجية لمصر بلغت 20 بليون دولار.

ووفق رؤية السيسي، فهو دائماً يتحدث عن تحقيق تنمية غير مسبوقة، وإحداث نقلة نوعية عبر خريطة إدارية واستثمارية تبدأ باستصلاح مئة في المئة من أراضي البلاد. وذكرت الصحف أن رؤية السيسي الاقتصادية تستند إلى مشروع وضعه الخبير المصري فاروق الباز (شقيق أسامة الباز) والعالم المعروف في وكالة «ناسا» للفضاء.

ومع أنه وضَعَه في مطلع عهد حسني مبارك -أي عندما كان عدد سكان مصر لا يتعدى الخمسين مليون نسمة- إلا أن وزير الدفاع يؤمن بجدواه، ولو تجاوز عدد سكان مصر 86 مليون نسمة.

ويتضمن ذلك المشروع الضخم استصلاح مساحة 11 مليون فدان من الأراضي الواقعة غرب نهر النيل. ويقضي بإنشاء 48 بلدة حديثة، وثمانية مطارات، مع ما يرافقها من سكك حديد وطرق وماء وكهرباء.

وفي مناسبة إطلاق الحملة الانتخابية، أعلن الدكتور هاني سري الدين، المشرف على برنامج المشاريع الاقتصادية، أن رؤية السيسي تكلف 300 بليون دولار، وتحتاج إلى أربع سنوات لكي تستكمل عملية تنفيذ البنى التحتية.

في مطلق الأحوال، تبدو هذه المشاريع الخيالية كجزء متمم لحملة تسويق السيسي الملقب بـ «رجل الظلال»، ولكنها في حقيقة الأمر تعكس رؤية كل طامح إلى منصب الرئاسة في مصر.

هذا على الصعيد الاقتصادي، أما على الصعيد السياسي، فإنه وضع المملكة العربية السعودية كهدف أولي لزياراته الخارجية، وقال في معرض شكره للعاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز: «إن دعمه لشعب مصر أحدث تغييراً في المعادلة السائدة». وبناء على هذا التغيير، أعلن أنه سيسعى إلى تكامل البلدين، أمنياً وسياسياً. ومثل هذا التكامل سيؤدي إلى توقيع اتفاقية استراتيجية مع دولة الإمارات المتحدة والكويت والبحرين، وكل دول الخليج التي ترى في مصر عمقها العربي-القومي.

بقي السؤال الأخير: هل تستطيع الأرقام الفلكية التي اعتمد عليها عبدالفتاح السيسي محو صورة شرعية الرئيس السجين محمد مرسي، وإقناع الإدارة الأميركية بأن خطابه السياسي أفضل من ممثل «الإخوان المسلمين»؟

في لقاء جمع مساعد وزير خارجية أوباما مع مرسي، وعد «الإخونجي» بأن حزبه قادر على احتواء إرهاب أعتى المنظمات وأكثرها انتشاراً مثل منظمة «القاعدة.» وقدَّم دليله بإعلان انتقال قسم كبير من المقاتلين من مغاور «تورا بورا» إلى صحراء سيناء.

والنتيجة أنه لم يتطوَّع لضرب الإرهاب الممثل بمنظمات الإسلام السياسي… وإنما تطوع لاحتوائها وتدجينها وفرض هيمنة «الإخوان» عليها. وفي هذه الحال، يمكنه إطلاقها من جديد إذا ما اختلف مع الولايات المتحدة.

وعندما زار ممثل اوباما وزير الدفاع السيسي، رد على السؤال ذاته بالقول إنه جاهز لضرب الإرهاب واقتلاع جذوره. وفسر موقفه المبدئي بأنه غير نابع من الحاجة لإرضاء أميركا، بل من الحاجة إلى تغيير الخطاب الديني الذي يسيء إلى الإسلام.