العجز يكبّل الجميع في ملف نازحي العراق
مطران الموصل لـ«السفير»: لن أعود إلى أبرشيتي
يتحول العراق وطنا نازحا. هذا ما تقرأه في عيون النازحين العراقيين في أربيل. استوطن هؤلاء في الشوارع والحدائق العامة وفي باحات الاديرة وقاعاتها. جافتهم الاحلام وعلقت ككتل دم في دموع أطفالهم. أمراضهم وحدها لم تنسهم. بقيت أمينة لهم وخصوصا المزمن منها. النزوح لا يميز، والشمس كذلك، فهي تضرب أربيل كعادتها في شهر آب بخمسين درجة، بنزوح ومن دونه. قتلت أشعتها اطفالا نازحين جراء الجفاف في كنيسة مار يوسف في عينكاوة. وضعت الجثامين في الامانات ريثما ينبلج الفجر وتوارى في الثرى في أرضها الام. الصيف قاتل في أربيل والشتاء يهجم بثقة على خيم النازحين الطرية. هذا ما يقض مضاجعهم.
«نريد العودة الى بيوتنا». مطلب النازحين البسيط لا يجد جوابا شافيا لدى اي مرجعية. فالجميع عاجز امام هول الكارثة. اللوم الاكبر يوجهه النازحون إلى الحكومة المركزية. واما حكومة الاقليم فمشكورة ولكن ليس كافيا ما تقدمه. لتبقى الكنيسة، ام الصبي، العاجز الاكبر، فلقد فتحت ابواب مطرانياتها وكنائسها وفلشت الخيم في باحات اديرتها، ولكن الحاجة اكبر بكثير. «ما يحصل هو إبادة حقيقية لمكون اصيل في البلد»، تعتبر الكنيسة بفروعها الرئيسة في العراق من سريان اورثوذكس وسريان كاثوليك وكلدان. تضع الدعوات لهجرة المسيحيين الى الغرب في خانة «انها لو كانت النية جادة لساعدونا على أرضنا». لا تطلب الكنيسة من العراقيين البقاء او الهجرة «فلكل فرد حرية القرار». ولكنها بتحركها تسعى الى وضع كل الجهات امام مسؤولياتها. فتلوم النواب العراقيين المسيحيين وتدعو مجلس الامن والجامعة العربية الى زيارة العراق للوقوف عند حجم الكارثة.
قبل الغزو الداعشي للموصل كان يعيش في المدينة 1200 عائلة مسيحية. بعده، نزح جميعهم الى أربيل ودهوك بشكل أساسي، وتقدر جهات كنسية أعدادهم بـ150 الف نازح. انتشروا بداية في قرى سهل نينوى لكنهم سرعان ما نزحوا منها ايضا. تعد البشمركة بأنها سوف تحرر قرى السهل الواقعة تحت سيطرة «داعش» في غضون 15 يوما، ولكن النازحين فقدوا ثقتهم بالجميع، سواء بقوات البشمركة ام بالجيش العراقي. هذه المأساة التي يعيشها العراقيون اليوم يعيدها رئيس ابرشية الموصل وكردستان للسريان الاورثوذكس نيقوديموس داود متي شرف الى «التزاوج بين كم كبير من الشر الغربي، يقابله كم كبير من الغباء العربي». بعفوية لا تخلو من انفعال صادق يضيف: «انا لن اعود الى ارض طردتني». هكذا يعبر عن «الجرح الكبير»، شارحا: «في الواقع لا يمكن ألا أعود، ولكنني لن اعود الى الموصل كما تركتها حيث سأقتل فيها. الموصل موصلنا ومقر ابرشيتنا التي عمرها 1700 سنة وهي عروس الابرشيات، لكن جرحنا كبير. للمرة الاولى منذ دخول المسيحية الى الشرق لا تقام الصلاة في الموصل منذ شهرين، وهذا لم يحصل حتى على يد هولاكو ولا في ايام الثورات والحروب الا في هذه الهجمة الهمجية التي تخبئ لداعش دورا سياسيا لا تعرف الجهة التي تقف خلفه».
لكن «داعش» في الموصل لم يكن «غريبا»، على ما يقول المطران متي شرف. يؤكد انه «عندما حصل ما سمي غزوة الموصل، استقبل بعض أبناء المنطقة عناصر داعش بالزغاريد والورود. فكثر من اهل الموصل ساعدوا داعش وانخرطوا في صفوفه، وهذا ما يفسر انه مذذاك لم نعد نسمع بأي تفجيرات هناك منذ شهرين، في حين انها كانت تحصل يوميا». ويكشف عن ان «داعش» يعمم على مواقع التواصل الاجتماعي اشرطة لقياديين في هذا التنظيم يتحدثون اللغة الموصلية ويذكرون قراها مثل باب البيض وباب جديد وغيرهما «ومن سابع المستحيلات ان يتقن احد من خارج الموصل لغتها الا ابناءها». ويخلص الى القول: «لقد هدفوا الى تهجيرنا، والدليل انه غير صحيح ان داعش قام بعمليات اغتصاب وذبح في الموصل وانما ارادوا تحقيق هدفهم هذا».
وهل سيحقق المسيحيون هذا الهدف؟ يجيب: «المسيحية في النهاية لا ترتبط بمناطق وانما بثبات الايمان الحقيقي. صحيح اننا متوغلون في جذورنا، ولكن الاعتزاز مقرون دائما بالكرامة، بينما القسم الاكبر من اراضينا وأرزاقنا لم تعد لنا». يأبى التعليق على ما اذا كان الحل بتسليح المسيحيين كما تطالب بعض الاحزاب المسيحية، لكنه يقول: «هذا شأن سياسي والسياسة بلا أب».
عاد بطريرك الموارنة بشارة بطرس الراعي الى بيروت ولكن نظراءه الثلاثة بطريرك السريان الكاثوليك يوسف الثالث يونان وبطريرك السريان الاورثوذكس افرام الثاني والبطريرك غريغوريوس الثالث لحام، بقوا لبضعة ايام. يجولون على مراكز النزوح في أربيل ويسمعون مطالب واوجاعا. حجم الكارثة كبير والكنيسة تشعر بثقله. في مركز النازحين في كنيسة ام النور في عينكاوة، حيث اختلطت فرشات النوم مع الاحذية ومائدة الطعام، لم تغب الفرحة عن وجوه النازحين لدى استقبالهم البطريرك افرام. اطلقوا الزغاريد ترحيبا. فتوجه اليهم قائلا: «انا أتألم معكم. سنقوم ما بوسعنا وأكثر لكي نلبي احتياجاتكم. وانا مستعد لاستمع الى كل شكاويكم حتى لو تضمنت التهجم علي، فأنا أتفهم، لأن كل ما نقدمه سيبقى ضئيلا ريثما تعودون كريمين الى بيوتكم».