كثر في لبنان وخارجه يتعاملون مع مسألة إعلان تنظيم “داعش” دولة “الخلافة” الاسلامية من زاوية انه “وهم كبير” وسراب لا يمكن نيله نظراً الى اعتبارات عدة، أولها انه منذ ان سقطت رسمياً آخر دول الخلافات الاسلامية وهي دولة بني عثمان في تركيا عام 1924 على يد مصطفى أتاتورك، جرت محاولات ما لبثت ان فقدت طاقتها لانشاء خلافات ولو رمزية هنا أو هناك ترث الخلافة، أبرزها محاولة الملك فؤاد (والد فاروق) في مصر، وهي المحاولة التي بددها كتاب الشيخ علي عبد الرزاق الشهير “الاسلام واصول الحكم” والذي أكد فيه انتفاء أي اسانيد فقهية أو شرعية في كل منظومة القيم الاسلامية تبيح انشاء خلافة اسلامية. أما ثانيها فهو أن اعلان خلافة على هذا النحو من اشخاص أو مجموعات مجهولة الأصل والفصل وتعتمد على مجموعات مسلحة فالتة من أي عقال شرعي أو فقهي، معناه فتح باب الصدام القوي مع دول وأنظمة وممالك عربية نشأت منذ عقود وعقود ورسخت وجودها باحتضان خارجي خصوصاً ان خريطة الخلافة الجديدة المنشورة تضم ما لا يقل عن 14 كياناً ودولة تمتد على مساحات شاسعة تسكنها أقوام وقوميات شتى.
وبصرف النظر عن هذا الرأي أو هذه النظرة، فإنه لا يمكن أي مراقب أن يقارب هذا الأمر المستجد من باب لزوم ما لا يلزم أو اسقاطه من الحسابات المستقبلية واعتباره قفزة في الهواء ووثبة في المجهول. واصحاب هذا الرأي وبينهم دوائر القرار في 8 آذار، يذهبون في تحليلهم واستشرافهم لظاهرة اعلان خلافة اسلامية بعد نحو 90 عاماً على سقوط آخر خلافة كبيرة الى حد القول ان الأمر لا يمكن ادراجه في خانة المغامرة غير المحسوبة العواقب، بل ان اعلان الخلافة هو مرحلة يتعين مقاربتها على أساس انها ستمسي حالة وحقبة في تاريخ الجماعة الاسلامية التي ما زال حلم الخلافة التاريخي يراودها، وتحلم باستظلالها، على اعتبار انها أمست واجبة الوجود فقهياً وشرعياً. فالخلافة المطروحة اليوم هي بمثابة الهدف الذي نشدته قوى وجماعات وحركات اسلامية منذ عقود وعقود، ونظر اليه المفكر الباكستاني الشهير ابو الاعلى المودودي واخذ قسماً منه مؤسس “الاخوان المسلمين” الشيخ حسن البنا وطوّره المفكر الشهير سيد قطب وصبّه في قالب فكري وعقد سياسي تجسد في كتابه “معالم في الطريق”، مفضلاً أن يعطيه مصطلح “الحاكمية لله” وليس الخلافة، فضلاً عن ان “حزب التحرير” الاسلامي الذي اسسه الشيخ تقي الدين النبهاني في مطلع عقد الخمسينات من القرن الماضي أصر على مصطلح “الخلافة”.
وفي كل العصور والامصار، كان مبدأ السعي إلى الخلافة اسقاط الحدود والسدود بين الدول العربية والاسلامية كشرط أولي لازم لتطبيق الخلافة وارساء أسسها. لذا، يمكن القول ان فكرة الخلافة بألوانها ونسخها المتعددة ولكن بجوهر اساسي واحد، استهوت مواكب أجيال اسلامية عدة خصوصاً بعد كل هزيمة او نكسة أو خلال صراعات حادة كبيرة ولا سيما صراعات مذهبة العالم الاسلامي. وعليه، ففكرة الخلافة لا يرميها اصحابها في ارض خلاء اذ إن لها جذوراً وأرضية خصبة، وستجد لها آذاناً صاغية وستجذب حتماً شرائح بصرف النظر عن حجمها.
ولبنان أيضاً بدأت تلفحه باكراً الرياح الحارة لهذا الوليد السياسي الجديد (الخلافة)، وقد تجلى ذلك من خلال هجمة “الانتحاريين” الجدد الذين تسميهم أدبيات تنظيم داعش “الانغماسيين” على الساحة اللبنانية، فكانت لهم ضربتان في ضهر البيدر ومدخل الضاحية الجنوبية، وتمكنت الأجهزة المعنية من ضبط العشرات منهم، فضلاً عن مقتل أحدهم، فيما يتم تداول معلومات فحواها ان هناك 13 آخرين مع سياراتهم المفخخة قد دخلوا الى لبنان.
ورغم سريان كلام من نوع انتفاء البيئة الحاضنة لتنظيم مثل “داعش” وامتداد الكلام القائل بأن الشريحة المذهبية المعنية بالأمر في لبنان لا تستهويها مثل هذه الأفكار المتطرفة، وان المتشددين منهم ما برحوا يعانون بشكل أو بآخر من التداعيات السلبية لحماستهم لتأييد المعارضة السورية، وأنهم بالتالي ليسوا في وارد تكرار التجربة المرة مع فكرة تبدو “هيولية” فإن من الواضح الآتي:
ان المرحلة “الداعشية” هي في ذروة تمددها وفي اقصى زخم حراكها وعنفوانها لا سيما انها حققت انجارات ضخمة وسريعة، وبالتالي فهي ستفرض نفسها على الواقع العربي ومنه لبنان الى أجل غير مسمى، ولن تجد نهاية مثل نهاية بن لادن الا بعد سنوات خصوصاً بعدما اتضح أن “داعش” ليس تنظيماً يتيماً بل هناك من يوظّفه ويستخدمه أو على الأقل يستفيد سلباً وايجاباً من وجوده في إطار صراع الأمم والوجود في المنطقة.
– ان “داعش” بعث برسل ورسائل الى الساحة اللبنانية محورها أمران: الأول، ان هذه الساحة ملحوظة عنده، وتدخل في سياق استراتيجيته الساعية الى الخلافة. والثاني، انه في وارد خلق بيئة حاضنة له مستقبلاً وانه مستعد لأن يكون الرافعة لكل من يملك أهلية.
إن هدف “التنظيم – النجم” ليس سهلاً في لبنان، ولكن الثابت ان أعلامه ارتفعت في اماكن عدة وان ثمة معنويات عادت لترتفع عند البعض، واستطراداً ان ثمة “بيعات” تعقد في ظلمة أمكنة وتجمعات عدة لكي تظهر ساعة يقتضي الأمر.
الأكيد أن “داعش” يخوض تحدياً كبيراً، وهو بدأ رحلة شاقة وشائكة، ولكن الجلي ان ظلال مشروعه الثقيل القت بنفسها على الساحة اللبنانية واجبرت على سبيل المثال الأجهزة الأمنية على مواجهة تحدٍ متعاظم.