I ـ ما أبشع ما نستحقه
«داعش» احتلت عرسال، بلمح البصر. عملية تشبه احتلال الموصل في العراق. احتاج الأمر ساعات، وقيل، أقل من ذلك… قبل ذلك، وبسرعة قياسية غير مسبوقة، اجتاحت مساحات شاسعة من سوريا والعراق، توازي ثمانية أضعاف مساحة لبنان، وأقل قليلاً من مساحة سوريا، عندما كانت بعد دولة موحدة.
«داعش» هذه، لم تعد تنظيماً، صارت دولة وخلافة مترامية الأطراف، بإمكانيات مذهلة، مالياً وعسكرياً وعددياً، وبانتشار منظم غير مسبوق، لعل بعضه مقتبس من تنظيمات «الحشاشين» بقيادة الصباح، انطلاقاً من قلعة «الموت» في إيران.
«داعش» هذه، مخيفة بما ترتكبه وما تتعمد نشره على مواقع التواصل الاجتماعي: إعدامات مرعبة، جز رقاب مذهل، ذبح على مرأى من الكاميرا، وفي مشهدية حية، وسط تكبير صارخ… و«داعش» هذه، سمعتها التي تثير الهلع، جزء من كسبها للمعارك. هكذا كان المغول قبلهم. رعبهم يسبقهم، فتتداعى الحصون وتتساقط مدن وتخلى حصون أخرى… و«داعش» هذه لم تَقْوَ عليها جيوش. هزمت جيش العراق وأذلته، وكادت تصل أسوار بغداد، وتدق أبواب إقليم كردستان وتسلب سهول نينوى وصلاح الدين، كما أنها لم تخسر في سوريا معاركها الكبرى، وان كانت تصاب أحيانا بانتكاسات. لم تتوقف «داعش» عن الانتشار، فهي في أرض خلافتها وفي خارجها كذلك، حتى بلغت «عرسال» برفقة عناصر من اخوانها اللدودين، كـ«النصرة» والفلول والشبيحة والقتلة.
ولـ«داعش» فروع من سلالة «القاعدة» الأم، يسيطرون على حضرموت في اليمن، وعلى أرض الصومال، وعلى «الجماهيرية» الدموية العظمى، وعلى أجزاء واسعة من العراق وسوريا، ولها خلايا مستيقظة أو نائمة في دول عربية كثيرة، ومنها لبنان «المضياف» بحناجر بعض مهووسي أبناء الحملة، كما لها خلايا في عواصم ومدن الغرب، وشمال افريقيا وجنوب الصحراء، وبوكو حرام في نيجيريا إلى جانب بعض دول ومناطق الاتحاد السوفياتي السابق، من دون أن ننسى أرض ولادة القاعدة في ديار الملا عمر، الحاكم بأمر الله في معظم أراضي أفغانستان.
هل نستحق هذا المصير؟ أما كنا نعرف أن أقدام «داعش» تقترب منا، منذ أكثر من عامين؟
كتب الكثير عن خطر «داعش»، عن جنونها المستفحل والمنظم والمعقدن. كتب عن شناعاتها ونهجها التكفيري وسياساتها الاستئصالية لكل من لا ينتسب إليها أو يشبهها شبها مبرماً. كتب عما ارتكبته مع العلويين والمسيحيين والأزيديين، وعن سنة لا يشبهون بها. تفوقت على سفاحي الممالك في التاريخ وقراصنة البحار وروّاد الحضارة الغربية التي أفرغت القارة الأميركية من سكانها الأصليين بالإبادات الجماعية. كتب الكثير، وقرأنا الكثير، فماذا فعلنا لنتجنب عرسال وأخواتها في المستقبل؟
لم يسمع قادة لبنان الستة نداء طلب الحماية للبنانيين من دولتهم. لم يبن أحد جسراً بين المتخاصمين. أعمدة الكيان الستة، المنتخبون طائفياً ومذهبياً، بصناديق شرعية، ظلوا على منصاتهم يصرخون ويتهمون ويتبارون في تعميق شقة الخلاف وتأبيد الانقسام الذي أفرغ الدولة من قدراتها على اتخاذ قرار أو ملء فراغ أو تصريف أعمال…
داعش، لم تعد على الأبواب. أصبحت في صحن الدار.
فما أبشع ما نستحقه.
II ـ ما أبشع ما بدأ وما سيلي
قبلنا، حدث ما سيحدث عندنا. دول، لم تكن دولاً. استبداد مدني بثياب عسكرية بقائد، هو «الله» و«الكتاب» و«الأمر بالمعروف والنهي…»، معصوم عن الخطأ، مجرد النقاش في ما له وما علينا، يستوجب العقاب. دول، مظلومة بحكام مدنيين «ظلاميين»، يرتدون ثياباً غربية ومزركشة بمساحيق العولمة… قَبْلَناَ، حدث ما سيحدث في لبنان. الدولة في لبنان، مشروع مؤجل. البديل، سلطات طائفية ومذهبية مطاعة من أكثرية «شعوبها»، تصطدم ولا تلتئم، تشرك في الوطن ولا تشارك، منقسمة على نفسها، لا أرضية مشتركة لها، غير اقتناص المنافع والمراكز والنفوذ، في مبارزات يومية «دونكيشوطية، يدفع ثمنها الشعب الطافر من طوائفه.
قبلنا، جاء الربيع العـربي، هز ديكتاتـوريات، ورثتها حركات إسلامية، كانت مختبئة في القاع الاجتماعي المقفل عليه بقرارات ديكتاتورية، فاحتلت المشهد. حركات إسلامية، المعتدل فيها، «اخواني» يتشبث بأكثريته فيفرضها عبئاً ونيرا على الدولة والسياسة والمجتمع، والمتطرف فيها، يتشبث بقوة التكفير ممارساً أعتى همجية وبربريـة عرفـها التـاريخ، مضيفاً إليها مشهدية مقصودة ومبرمجة، لبث «الإيمان» بالرصاص أو بحد السـيف أو بقطـع الأعناق.
عندنا ما يشبه التحضير للمسرح القادم. عندنا ما يشبه سوريا قبل التنفيذ، وما يشبه العراق قبل الدخول إلى الحلبة، وما يشبه ليبيا قبل الاندلاع الجماهيري العنفي. وما يشبه الصومال وحضرموت. وبالأمس القريب، اقترب المشهد من بدايته: عرسال هي التوطئة، فماذا بعد، ومن بعد؟
III ـ من أقوى من «داعش»؟
لا يبدو، من خلال سير المعارك، ان أحداً استطاع أن يوقف «داعش» أو يتصدى لها بنجاح. لا الجيوش القوية، ولا التنظيمات المنافسة، ولا حتى الدول. تملك «داعش» رصيدا من الاجتياحات تؤكد حجم القوة التي تحظى بها، وهي لا تشبه التنظيمات الفقاعية العابرة، التي تولد بسرعة وتموت بسرعة، ذلك أنها لم تنشأ بقرار من خارجها، تدين له. لا دولة وراءها، وكل الدول ضدها، حتى تلك التي تتوهم أنها قادرة على توظيفها في معركة ما. «داعش» ليست موظفة عند أحد، وهذا سر خطورتها وسطوتها، فلا أحد يمون عليها، لا من دول الخليج ولا من الممالك العربية.
لذلك، تبدو هي الأقوى، وبناء عليه، يظهر أنها صاحبة مشروع له حيثية حقيقية، مشروع شرق إسلامي، بحاضنات إسلامية سنية تاهت عن صراط الاعتدال. وهي تبدو كذلك متفوقة في ممارسة نهجها المتشدد. في التكفير وعقابه، وفي فرز الأعداء من «الأنقياء». هذا الجديد في «داعش» غير مسبوق إسلامياً، حيث تم تزويج «العقيدة» للسيف، مع أولوية السيف على العقيدة.
حدث ذلك والأرض العربية فارغة من أي مشروع عروبي، تقدمي، إنساني، ديموقراطي. الإسلام الرسمي لا يقنع «داعش»، الإسلام الشيعي مدان، المسيحيون كفرة، الأزيديون والآخرون رجس من قبل الشيطان، فأبيدوه.
حدث ذلك، بعد ارتطام الربيع العربي، بالأنظمة الديكتاتورية، وفشل القوى التقدمية والديموقراطية والمدنية في احتلال الساحة السياسية والفكرية، فاستفردت القوى الإسلامية «المعتدلة» بالساحة سياسة، والقوى الظلامية تكفيراً وقتلا وتهجيرا.
«داعش» تتقدم والآخرون يتراجون مرعوبين. الموصل لا تزال تحت أقدام داعش. أهلها هجروها: مسلمين ومسيحيين.
سهول وجبال ومنابع نفط وحقول غاز ومدن ومناطق ومحافظات لا تزال تحت سيطرتها، وترسل البعثات بعيداً عن مراكزها، وقد وصلت منها بعثة إلى عرسال… والدم المسفوك أول الرسالة. لا الجيوش استطاعت صدها، ولا الدول ولا العالم. فهي الأقوى، هنا وهناك وفي كل مكان تطأه سيوفها وأسلحتها وطرائق فتكها. والخوف الأكبر، أن تكون قواها السرية منتشرة ومهيأة للحظة الانقضاض على الجميع.
من حقنا أن نخاف. يبدو أن «داعش» أقوى منا جميعاً ولذلك قد تكون عرسال الأولى، فمن بعدها؟
الجيش اللبناني يطالب بتجهيزات عسكرية. فهو غير مستعد، لضعف عدته، لمواجهة «داعش» في عرسال، فكيف إذا فتحت جبهة أخرى. الجيش يطالب السياسيين بتأمين حصانة تامة لمعاركه المكلفة، شهداء وجرحى وآلاما وخرابا. فلا يخرج أتباع «داعش» عندنا، بحرب كلامية على الجيش وحروب كلامية توقظ النعرات وتفجر البلاد. الجيش اللبناني، بحاجة إلى حماية وحضانة وطنية كي يحمي اللبنانيين. هو مسؤول عن أرواحنا. مسؤول عن بقائنا هنا، مسؤول عن سلامة الدولة… وهو مستعد لذلك، إنما غيره ليس مستعداً بعد… لم يجترح الخطوة الضرورية. لم يتنازل أحد من أعمدة لبنان الستة، ليقول: فليكن شعارنا الأول: محاربة الارهاب ومنعه من التمدد. ولنؤجل كل الخلافات العميقة إلى ما بعد ذلك، لأن خراب البصرة اللبنانية، إذا حصل، لا يبقي لأعمدة «الحكمة» الستة، غير الدخان والرماد والأندلس المحترقة.
لدينا بارقة أمل وحيدة: أن يتنازل هؤلاء، ليرتقي الشعب إلى مصاف المواجهة الواحدة مع التكفير والإرهاب.
قد تأخرنا كثيراً. إنما، لدينا متسع من الوقت ورفعة من التفاؤل. حبذا لو يكون بيننا من يؤمن أن الدولة أولاً، ومن دون الدولة، نحن على طريق العراق وسوريا واليمن وليبيا والصومال… سائرون.
IV ما أبشع ما نتوقعه
رايات سود، إمارات سود و«آيات» سود… وصباح أسود يا بيروت، لقد جاءك من يغمض عينيك، ليصير البلد على سنة الموصل، وعلى أبوابه وجدرانه حروف سود، أولها «نون» وآخرها، من تبقى من «ميم». وعندها يكون لبنان قد أبِيْدَ ولم يعد موجوداً. تماماً كعراق ضاع، وكشام تقلّصت، وكصومال انتهى زمنه، كليبيا في جماهيرية الاقتتال، أو كسيناء في فصل الصحراء، كحضرموت في هزيع «القات» الديني… تماماً، يصير لبنان، أخاً حقيقياً، للدول البائدة، وضحية ثمينة لجحافل البرابرة القادمين لتطهير الأرض من ناسها.
أبشع ما نتوقعه، أن لا نستيقظ ذات يوم، لنقول للبنان وداعاً.