IMLebanon

من الرابية إلى بعبدا: إستئصال الدور المسيحي

تجاوُزاً لما كتَبه نائب رئيس مجلس النواب السابق إيلي الفرزلي، ولِما قرأه وزير الخارجية جبران باسيل بالنيابة عن العماد ميشال عون، في شأن مواجهة المسيحيّين لـ»داعشية» تُهدّد باستئصالهم، لا بدّ من التذكير بحدثٍ يتكرَّر منذ العام 1988، عنوانُه الوحيد: «إستئصال الدور المسيحي واختزاله بطموح فردي».

هذا الاختزال لبِسَ حيناً لبوسَ السيادة والاستقلال واللاطائفيّة، وتحوَّل أحياناً منذ العام 2005 حالاً أقلّوية مستتبعة للنظام السوري، لكنّه كان دائماً مجرّد طموح شخصيّ عابر لأيّ التزام بثوابت مسيحيّة أو وطنية، فالعين دائماً على قصر بعبدا، ومنه تنطلق السياسات وإليه تعود.

في هذا البيان المكتوب، كلمة سحرية هي قصر بعبدا. قبل العام 1988 خاضَ عون من أجل هذا القصر كلَّ أنواع التفاوض مع النظام السوري، ولو كان الفرزلي قد وُلد سياسياً آنذاك، لكان هو أو من يُشبّهه، عرّاب التواصل العوني مع نظام الأسد.

لكنّ المصادفة شاءت أن يكلّف قائد الجيش العماد ميشال عون في منتصف الثمانينات أشخاصاً كمحسن دلول، وفايز القزي (الذي أرّخ بأمانة لكلّ جولات التفاوض هذه). وكان رجل الأعمال رفيق الحريري أحد الذين سمعوا من الرئيس السوري الأب حافظ الأسد، عبارات التأييد لانتخاب عون رئيساً عام 1988.

بعد الفراغ الدستوري الأوّل في العام 1988، وتمترس عون في بعبدا رافضاً انتخاب رئيس جديد للجمهورية، متسلّحاً برفض اتّفاق الطائف، وبعد حربَين مدمِّرتين لم تُبقيا للمسيحيين أيّ أمل في صوغ توازن داخلي ودور إقليمي، ها هي البروفة العونية تتجدَّد اليوم، بتكرار السيناريو نفسه: إمّا انتخاب عون رئيساً، أو الاستمرار في الفراغ، وفي التعبئة الطائفية تحت عنوان «أنّ الوجود المسيحي سيتهدَّد إذا لم يصل إلى بعبدا»، ولا بأس في سياق هذه الرحلة الخطرة، من وضع المسيحيين في مواجهة المسلمين، والعَزف على وتر الخوف الوجودي من الموصل إلى بعبدا، بحسب أدبيّات الفرزلي.

فمن الرهان على التفاهم مع الأسد الأب، إلى شنِّ «حرب التحرير»، والحرب مع «القوات اللبنانية»، إلى النفي فالعودة متحالفاً مع الأسد الابن، ومن شنّ حملة على الطائفة السنّية منذ العام 2005، والعودة إلى مغازلة الرئيس سعد الحريري قبل أشهر من استحقاق انتخابات الرئاسة، ومن استهداف البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، إلى الترحيب بانتخاب البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، ومن ثمّ الانقلاب على كلّ الوعود التي أعطِيت في بكركي لتأمين النصاب، مسارٌ وضعَ الدور المسيحي في خانة الرهينة الدائمة، وكرَّس أكبر استئصال للدور المسيحي. فلا السُنّة ولا الشيعة هم مسؤولون اليوم عملياً عن تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية، في ظلّ إصرار عون على معادلة «أنا أو لا أحد».

يرى مُطّلعون أنّ ما يقوم به عون اليوم بات يشبه «خاتمة هزائم المسيحيين». الحملات على بكركي والهجوم على قيادة الجيش وتحميلها مسؤولية ما حصل في عرسال، والمجاهرة بخطاب طائفي لا يُوظَّف إلّا في خانة تحالف الأقلّيات، كلّها أوراق يحاول عون استعمالها لاستباق أيّ تسوية رئاسية حتى قبل أن تولد، عبر ربط مصلحة المسيحيّين ووجودهم ودورهم بالوصول إلى بعبدا.

من الرابية (حيث أقام عون في الثمانينات وحيث يقيم اليوم) إلى بعبدا مسلسلٌ واحد لا يبدو أنّ فصوله ستنتهي، إلّا بمزيد من الخسائر والرهانات المكلفة، التي تزيد من خطورتها الأحداثُ في المنطقة. أمّا في لبنان فسيؤدّي التعطيل في انتخابات الرئاسة إلى سيناريو التمديد للمجلس النيابي تفادياً للفوضى الكاملة، وسيَبقى الموقع المسيحي شاغراً في انتظار أن تقتنع الرابية بأنّها لا تملك حقّ «الملكية الحصرية» لبعبدا.