IMLebanon

من الرقّة حتى الموصل: «داعش» صورة «البعث»

 

لم تكن عقيدة «حزب البعث العربي الاشتراكي» في ذاتها شيعيّة ولا سنّية. مع ذلك، فإنّ السيطرة المديدة لهذا الحزب على العراق وسوريا تجلّت أكثر ما تجلّت في مفارقة طائفية: فحيثما العرب السنّة يشكّلون الأنسجة الأكثريّة من السكّان، أي في سوريا، تجيء نواة الحكم البعثيّ، أي العائلة الرئاسية الحاكمة والمفاتيح العسكرية الأساسية، علويّة، وحيثما لا يشكّل العرب السنّة الأنسجة الأكثريّة من السكّان، أي في العراق، تكون نواة الحكم البعثيّ هذه عربيّة سنّية.

طبعاً، لم تظهر الحال على هذا النحو فور تسلّم البعث مقاليد الأمور في البلدين ولم تكن مبيّتة. احتاج الأمر الى بضع سنين. لكن الحال هذه استمرّت كذلك لعقود، الى أن جاء الغزو الخارجيّ الذي يسّر الحيف المذهبي والإثني الداخلي أمره، في حال العراق، والثورة الداخلية التي يجرّب فيها كل خارجٍ وصفاته، تدخلاً ونصحاً أو إحجاماً، في حال سوريا.

كذلك، لهذه المفارقة حدودها. ذلك أن نسبة الأقلية من العرب السنّة في العراق أعلى بكثير من نسبة العلويين العرب في سوريا، ويضاف اليه أنّ الأمة الرساليّة المنويّ «بعثها» من المحيط الى الخليج، هي في أكثريتها الساحقة على مذاهب أهل السنّة.

لكن ذلك لا يلغي حيثية المفارقة: أن يجيء حكم البعث «سنيّاً» في العراق و»علويّاً» في سوريا، ولا حيثية المفارقة الثانية: أن يُهدَم نظام البعث بتدخل خارجي في العراق، في مقابل بقائه كنظام احتضار دمويّ مزمن، في مقابل تحلّل الوحدة المجتمعية والكيانية، في سوريا.

أكثر من ذلك، فإنّ «تطيّف» هويّة البعث في احد البلدين، كان يفرض على البعث في البلد الآخر تعديلاً لصبغته بين الفينة والفينة. فمع اندلاع الحرب العراقية – الايرانية، وإيثار نظام حافظ الأسد جهة ايران، كان على البعث السوري أن يواجه اتهاماً سنّياً وقوميّاً عربياً له، بمجاراة الشعوبية. أما بعد سقوط نظام صدّام حسين، فكان النظام السوريّ في موقع دعم جماعات مسلّحة تستهدف الشيعة العراقيين والاحتلال الانغلو – أميركي على حد سواء.

رغم ذلك، فقد عاش البلدان، سوريا والعراق، «وحدة عميقة» بينهما منذ منتصف الستينات وحتى سقوط نظام صدّام حسين، إذ حكمتهما أيديولوجيا حزبية أحادية واحدة، لم تشمل غيرهما من البلدان العربية. قام جزء أساسي من هذه «الوحدة العميقة» على الصراع بين البعثين، وعلى تقاذف تهمة تفشيل مساعي الوحدة السورية – العراقية بينهما، ورمي مسؤولية الفشل على الطرف الآخر. هذه «الوحدة العميقة» التي دامت لعقود بين البلدين، وعلى قاعدة تحكيم الأقلية المذهبية في كل منهما، هي أهم تجربة تبديليّة لمسار المجتمعات والكيانات بتأثير من الفكرة القوميّة العربية، وليس «الوحدة الصاخبة» التي دامت لبضع من سنين بين مصر وسوريا.

ما بين الغزو الخارجي للعراق وما تبعه من حرب أهلية ظلّت تنكر اسمها، وما بين الانتفاضة الداخلية في سوريا، وما تبعها من حرب أهليّة لا ينفي الاقرار بحدوثها الوقائع الثورية، مرّت «الوحدة العميقة البعثية» باختبار أساسي: وما كان عنصر أساسي في استمرارها المزمن، من «تسنن» البعث في العراق و»تعلونه» في سوريا، تحوّل الى أمر آخر، وبشكل أساسي لأنّ سقوط الحكم البعثي في العراق أبعد العرب السنّة «فوق اللازم» عن المشاركة في اعادة بناء النظام السياسي، في حين أن امتناع الحكم البعثي في سوريا عن السقوط ولو بعد كل هذه الثورة وهذه الحرب وهذا التخريب، جعل انعدام التوازن الطائفي والإثني نافراً فيها أكثر من أي وقت سابق، ولا يقلل من ذلك عجز قوى المعارضة عن تأطير الأنسجة الأكثرية من المجتمع في «منظمة تحرير سوريّة» وطنية كيانية.

لكنّ هذه «الوحدة العميقة» بين البلدين استمرّت في شكل آخر، فكانت «داعش» عنواناً لهذا الاستمرار الكابوسيّ، محواً للحدود الكيانية بين البلدين، وتمدّداً من الرقّة حتى الموصل، وجراء تعاظم المكابرة على المسألة الاثنية الطائفية المركّبة، مسألة «العرب السنّة»، في ظلّ الغلبة الشيعية في العراق، بعد سقوط البعث، واستمرار الغلبة العلوية في سوريا، مع امتناع البعث عن السقوط.

البعث حكم البلدين لعقود. لم يكن مجرّد نظام تسلّطي لشدّة دمويّته. لم يكن نظاماً شموليّاً بكل ما للكلمة من معنى، لأنّ سيطرته على المدن الرئيسية كانت تُبقي الكثير من الأطراف عرضة للتهميش وليس لسياسات الهندسة الاجتماعية الشمولية. هذه كانت محدّدات «الوحدة العميقة» غير المعلنة والمزمنة بين البلدين. أما الوحدة «الداعشية» اليوم، فلها عنوانان بارزان: الأطراف الطاردة، من الرقّة حتى الموصل، والوحدة العضوية، بين ما هو سني وبين ما هو عربي. العنوان الثالث، يتصل طبعاً بعقائد «داعش»، وهذه بدورها لا تقرأ، الا كصورة «نيغاتيف» لعقائد «حزب البعث». فـ»داعش« جواب على سؤال: كيف تستمر «الرسالة الخالدة» للأمة، بعد رحيل الثلاثي البعثي الدمويّ، حافظ وصدام وبشار الأسد؟