لم يحدث طوال ألف سنة من عمر الكنيسة الكاثوليكية أن جرت مراسم تقديس اثنين من البابوات في وقت واحد.
فما هي الحكمة من وراء اعلان البابا يوحنا الثالث والعشرين والبابا يوحنا بولس الثاني قديسيْن في وقت واحد؟
قد تكون هناك اجابات كنسية متعددة على هذا السؤال. ولكن لا بد من ملاحظة أمر أساسي ومهم. وهو ان البابا يوحنا الثالث والعشرين هو الذي دعا الى المجمع الفاتيكاني الثاني. وأن البابا يوحنا بولس الثاني هو الذي عمل طوال سنوات حبريته التي استمرت 26 عاماً ونصف، على وضع قرارات المجمع موضع التنفيذ. صحيح ان البابا بولس السادس سبقه الى ذلك، ولكن الفترة الطويلة التي أمضاها البابا يوحنا بولس الثاني في السدة البابوية وإيمانه المخلص بقرارات المجمع، والتزامه القوي بها، وجرأته النادرة على تنفيذها، فتحت أمام الفاتيكان أبواب العالم كله، وحولته من موقع استقطابي منغلق الى موقع اشعاعي منفتح.
ان مبادرة البابا الى اعلان قداسة شخصيات دينية مميزة ليست أمراً نادراً في تاريخ الكنيسة. فالبابا يوحنا بولس الثاني وحده كرس 483 قديساً في عهده، أي أكثر مما فعله كل الباباوات الذين سبقوه على مدى 500 عام. وكان من بينهم قديسون من غير الأساقفة ومن السكان الأصليين في أميركا الجنوبية.
كان البابا يوحنا الثالث والعشرين ليبرالياً. ولولا ليبراليته لما دعا الى المجمع الثاني الذي صالح الكنيسة مع نفسها، وصالحها مع الأديان الأخرى، ومع العالم. ومن مظاهر ليبراليته انه استقبل في الفاتيكان صهر الرئيس السوفياتي السابق نيكيتا خروتشوف رغم أن الكنيسة تحرِم الشيوعية وتعتبرها كفراً.
وكان البابا يوحنا بولس الثاني محافظاً، ورغم محافظته فقد طاف العالم كله حاملاً رسالات المجمع الثاني وقراراته، ليس للتذكير بها فقط، انما لإرساء القواعد والأسس العملية اللازمة لتنفيذها. وقد شملت مبادرته العلاقات مع الاسلام واليهودية والكنائس الأرثوذكسية والانجيلية الاخرى.
ومن خلال تطويبهما قديسين معاً، فان البابا فرنسيس – الذي يقود الكنيسة نحو المزيد من الانفتاح بما يتناغم مع متغيرات القرن الواحد والعشرين – يوجه رسالة الى الليبراليين والى المحافظين معاً داخل الفاتيكان، وفي العالم المسيحي والعالم، ان الكنيسة هي لكل أبنائها، وأنها انطلاقاً من ذلك تمضي قدمأً في طريق الانفتاح التي شقها المجمع الثاني. فقبل المجمع كانت الكنيسة الكاثوليكية تكفر كل من يختلف معها أو تتباين وجهات نظره مع ما تعتبره الإيمان الصحيح. ولذلك حرّمت في أوقات سابقة كتب العديد من فلاسفة التنوير أمثال ديكارت وكانط وبودلير وجون لوك وسبينوزا وسواهم. أما اليوم فان الكنيسة الكاثوليكية تقول ليس فقط باحترام كل الأديان والعقائد، ولكنها تقول ايضاً بحرية الضمير وتدافع عنها استناداً الى مقررات المجمع الثاني. حتى ان البابا بنديكتوس السادس عشر في وثيقة الارشاد الرسولي حول الشرق الأوسط التي أعلنها من بيروت، قال انه «ليس لأحد أن يدّعي ملكية الحقيقة المطلقة، لأن الحقيقة ليست ملكاً لاحد».
والبابا فرنسيس، الذي يؤكد التزامه بقرارات المجمع وبالعمل على مواصلة تنفيذها، يقول:» لا يمكن بعد المجمع الثاني إعادة عقارب الساعة الى الوراء». بل انه يذهب الى أبعد من ذلك عندما يقول أيضاً: «ان المجمع الثاني لم يقدم ما فيه الكفاية».. ولذلك فانه لم يتقدم بما فيه الكفاية.
وربما يعود السبب في ذلك الى ان الحركة الليبرالية كانت نشطت بقوة على أطراف الكنيسة، ما أثار قلق البابا الراحل يوحنا بولس الثاني نفسه، وقلق خليفته من بعده البابا بنديكتوس السادس عشر.
فقد واجه الأول حملة واسعة طرحت قضيتي الاجهاض وتحديد النسل، متلازمة مع حملة على الكنيسة الكاثوليكية تطالبها باتخاذ مواقف منفتحة من القضيتين. الا ان البابا يوحنا بولس الثاني وصف تلك الحملة «بحملة الموت الأسود». وكان موقف البابا بنديكتوس السادس عشر أكثر تشدداً رغم ان ملف فضائح الاعتداء الجنسي على الأطفال استغل في عهده على نطاق واسع للضغط على الكنيسة.
غير ان ثمة جانباً آخر لا يقل أهمية في مقررات المجمع الثاني وفي المواقف منها، وهي المقررات التي تتعلق بالعلاقة مع الأديان والعقائد الأخرى.
فبالنسبة لليهودية، أقرّ المجمع الغاء قرار ادانة اليهود ولعنهم بصفتهم قتلة السيد المسيح، وأقرّ عدم تحميلهم، جيلاً بعد جيل، مسؤولية تلك الجريمة. وقد ادى اتخاذ هذا القرار الى حدوث عملية انشقاق محدودة داخل الكنيسة تجسد في قيام «جمعية القديس بيوس العاشر» – وذلك نسبة الى البابا بيوس العاشر الذي توفي في عام 1914 والذي كرّسه البابا بيوس الثاني عشر قديساً في عام 1954، وذلك نظراً للإصلاحات المهمة التي حققها. وبذلك أرادت الجمعية ان تقول من خلال اختيارها اسم هذا البابا الاصلاحي، انها ليست ضد الاصلاح من حيث المبدأ، ولكنها ضد ما تعتقد انه تجاوز للإصلاح وانقلاب على التعاليم الثابتة للكنيسة.
وتبرر هذه الجمعية معارضتها لهذه التعاليم بأن مقررات المجمع الفاتيكاني من اليهود كانت من الليبرالية بحيث انها خرجت عن أساس العقيدة وثوابتها.
ولا تزال هذه الجمعية قائمة حتى اليوم. وقد حاول البابا بنديكتوس السادس عشر استعادتها الى حضن الكنيسة الأم. فعرض في شهر مايو أيار 2012 على قادتها مواقع استرضائية في المؤسسات الفاتيكانية مقابل اعلان قبولهم بتعاليم المجمع الثاني، الا ان هؤلاء تمسكوا بموقفهم المعارض والرافض لهذه التعاليم.
أما بالنسبة للاسلام، فقد أعلن المجمع لأول مرة احترامه للمسلمين لأنهم يقولون بإله واحد ويحترمون المسيح وأمه ويؤمنون به نبياً. كما يؤمنون بعذرية السيدة مريم وباليوم الآخر وبالحساب والعقاب. وأكد المجلس على احترامه للمسلمين لأنهم يقيمون الصلاة لله، ويؤتون الزكاة ويقومون بأعمال الخير للصالح العام. واعتبر المجمع في قراراته «ان الخلافات مع المسلمين تشكل خطيئة للإيمان بالله الواحد الذي خلق الناس جميعاً ودعاهم الى الخلاص والسعادة».
وبالنسبة للكنائس غير الكاثوليكية (الأرثوذكسية والانجيلية)، فقد قرر المجمع تغليب روح الانفتاح والتصالح والغاء كل الأحكام الصادرة بالحرمان ضد بطاركة وسينودس القسطنطينية والذي ادى في عام 1054 الى أحداث مأسوية بين الكنيستين الشرقية (في استانبول) والغربية (في روما).
أما فيما يتعلق بالمدنيين المؤمنين من غير رجال الكهنوت، فقد فتح المجمع أمامهم الأبواب للمساهمة في حياة الكنيسة. وأقرّ السماح للكنائس في العالم باستخدام لغاتها القومية بدلاً من اللاتينية في اداء الصلوات (اللغة اللوترجية).
وبالنسبة للهندوسية والبوذية، قرر المجمع احترام كل الاديان «واحترام كل ما هو مقدس وحقيقي في الديانتين».
ومن أجل بناء الجسور الجديدة بين الكنيسة والأديان الأخرى، شكل الفاتيكان المجلس البابوي للحوار بين الأديان. وهو اليوم برئاسة الكاردينال جان لوي توران (من اصل فرنسي). وقد نجح المجلس في اقامة لجان عمل ثنائية بين الفاتيكان والمرجعيات الممثلة لهذه الأديان.
وفيما يتعلق بالاسلام تحديداً، فقد تشكلت لجان عدة مع كل من الأزهر الشريف (القاهرة) ومنظمة آل البيت (عمان) وجمعية الدعوة الاسلامية العالمية (طرابلس) ورابطة العالم الاسلامي (مكة). كما تشكلت لجان ثنائية مع كل من ايران وأندونيسيا.
ولم تقتصر عملية بناء الجسور على هذه اللجان. فالبابا الراحل يوحنا بولس الثاني دعا الى اول لقاء مشترك بين ممثلين عن كل الأديان والعقائد عقد في أسيزي (ايطاليا) في عام 1986، حضره ممثلون عن الاسلام.
وقام البابا نفسه، وقبله البابا بولس السادس بزيارات للعديد من الدول العربية والاسلامية في آىسيا وافريقيا والشرق الأوسط. وهما أول من استخدم صفة «الاخوة» في مخاطبة المسلمين.
ونظم البابا يوحنا بولس الثاني السينودس حول لبنان 1995 والذي كان يهدف الى تعزيز وتنشيط دور مسيحيي لبنان في العالم العربي ثقافياً واجتماعياً ووطنياً. كما نظم البابا بنديكتوس السادس عشر السينودس حول الشرق الأوسط 2010 والذي كان يهدف الى تعزيز الحضور والدور المسيحيين في المنطقة بعد صعود موجات التطرف الديني الاحتكارية للإيمان والإلغائية للإيمان المختلف.
كان من المفترض أن يكون لبنان بحكم تكوينه رسول المجمع الفاتيكاني الثاني الى العالمين العربي والاسلامي. ولكنه لم يؤد هذا الدور الرسالي. أو لم تمكّنه الظروف الموضوعية من ادائه.
فبعد اعلان مقررات المجمع في عام 1965، دخل لبنان والمنطقة العربية في دوامة الاضطرابات السياسية والأمنية:
[ 1964 قصف اسرائيل لمواقع تحويل روافد نهر الأردن في جنوب لبنان.
[ 1967 الاضطرابات التي عصفت بالمنطقة اثر سحب قوات الامم المتحدة من سيناء (أزمة مضائق تيران)
[ 1967 حرب حزيران واحتلال اسرائيل لمرتفعات الجولان والضفة الغربية بما فيها القدس وسيناء.
[ 1969 أيلول الأسود (الفلسطيني الاردني).
[ 1969 هجرة البندقية الفلسطينية من الاردن الى لبنان والزام لبنان باتفاق القاهرة مع منظمة التحرير الفلسطينية.
[ 1970 بداية الاضطرابات الأمنية اللبنانية الفلسطينية.
[ 1973 حرب تشرين (رمضان) لتحرير الأراض العربية المحتلة.
[ 1975-1989 الحرب الأهلية في لبنان.
تبين هذه السلسلة من الأحداث انه لا لبنان كان مؤهلاً لحمل رسالة المجمع الثاني، ولا الدول العربية كانت مؤهلة لاستقبال هذه الرسالة والتفاعل معها.
لا يعني ذلك انه لم تجرِ محاولات جانبية عربية فاتيكانية مباشرة. فقد قام رؤساء مسلمون عرب، ومسؤولون عن هيئات ومنظمات اسلامية عربية بزيارات للفاتيكان؛ وصدرت عن زياراتهم بيانات مشتركة. الا ان روح المجمع الثاني ظلت غائبة عن الثقافة العامة في العالمين العربي والاسلامي، وتحديداً عن القيادات الدينية. ولا تزال مقررات المجمع وتعاليمه، حتى اليوم، تحتاج الى من ينقلها الى المجتمعات العربية. ولعل هذا ما قصده البابا الراحل يوحنا بولس الثاني عندما وصف لبنان بأنه «أكثر من دولة.. انه رسالة». والرسالة التي قصدها البابا، هي رسالة العيش المشترك، التي وجد البابا في لبنان تكريساً لها بما يترجم دعوة المجمع الثاني.
واليوم بعد مرور خمسين عاماً على المجمع، وبعد تطويب اثنين من قادته، البابا يوحنا الثالث والعشرين والبابا يوحنا بولس الثاني، لا تزال هذه الرسالة بحاجة الى رسول. فمتى يؤهل لبنان نفسه ليكون هذا الرسول؟