وجّه مسيحيّو البقاع رسالة حازمة إلى كلّ من تسوّل له نفسه تهديدهم، ظنّاً منه أنّه برسائل عبر مواقع التواصل الإجتماعي أو بخطر قريب منهم، يستطيع إقتلاعهم من أرضهم. فكان الردّ بإحياء مهرجانات عيد السيدة بالآلاف في دير الأحمر وبعلبك وقرى البقاع.
يُفاخر الموارنة بأنّ تاريخهم حافل بالنضال، وهم الذين سكنوا الجبال والمغاور، وكسّروا الصخور وتحدّوا جبروت الطبيعة ليعيشوا أحراراً في مواجهة الطغاة والمستعمر الذي حاول تركيعهم ومعاملتهم كأهل ذمّة تحت سلطانه، لكنّ كثراً منهم، نسوا او تناسوا أنّ هناك مسيحيّين في البقاع، سكَنوا السهل، وقاوَموا مَن أراد القضاء على وجودهم، وصمَدوا في أرضهم على رغم أنّ ظروف المقاومة في السهول بحسب علم العسكر،
هي أصعب بعشرات المرّات من المقاومة في الجبال، لأنّ الأرض مكشوفة، ولا تحوي مغاور أو كهوفاً طبيعيّة، يختبئون فيها، ومن السهل الهجوم عليهم.
مُخطئ مَن يظنّ من المسيحيّين، أنّ وجوده ينحصر بين زغرتا وكفرشيما، لأنّ هذه العقلية توقع مزيداً من الخسائر وتفقده إمتدادات ومناطق بين يديه، فأينما سكنتَ تكون موجوداً… من البقاع الغربي مروراً بزحلة وصولاً الى بعلبك والهرمل، هناك مسيحيّون سكنوا السهل، مستغلّين خيراته، لا يأبهون لشمسه الحارقة، متمسّكين بالأرض الى حدّ القداسة، لا يبيعون ما يعتبرونه أقدس المقدّسات، لأنّ كل إغراءات الهجرة والحداثة في الغرب، لا تغنيهم عن كروم العنب والتين، وزراعة القمح في سهل البقاع.
«بشوات»… العيد
يحتفل مسيحيّو البقاع في عيد السيدة العذراء كلّ عام، وقد أصرّوا على إقامة الإحتفالات هذه السنة في وقتٍ ألغى بعضُ بلدات قرى جبل لبنان والشمال المسيحي إحتفالاته، هذا الإصرار يشكلّ دليل حياة لشعب قرَّر مواجهة التحدّيات، بعدما تلقّى تهديدات عدّة، خصوصاً أنّ العيد أتى هذه السنة بعد أسبوعين على إنتهاء معارك عرسال، ويؤكد أيضاً تمسّك المسيحيين بالبقاء في أرضهم وعدم الخوف في ظلّ التطهير الديني الذي يشهده العراق.
ومن هذا المنطلق حوّل أهالي منطقة دير الاحمر مناسبة عيد السيدة تظاهرة دينيّة كبيرة، فغصّت المزارات وعلى رأسها مزار «سيدة بشوات» بالمؤمنين الذين تقاطروا من مختلف البلدات، في تقليد لا يريدون أن تصرفهم عنه، زمرةٌ من الإرهابيين.
حمل المؤمنون أولادهم ومشوا، ومعهم شارة الصليب المزروعة في البقاع، وصَلوا الليل بالنهار، ليقارب عددهم ليلة العيد نحو 15 ألف مؤمن بحسب راعي أبرشية دير الأحمر وبعلبك للموارنة المطران سمعان عطالله، الذي يؤكد لـ«ألجمهورية»، أنّ «هذه التظاهرة الإماتية تحمل رسائل عدّة، لعلّ أبرزها أننا متمسّكون بأرضنا ولسنا خائفين من أحد، وقد أراد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي مشاركتنا العيد وأن يكون بيننا لكي يعطينا دفعاً معنوياً ويؤكد لنا أننا لسنا متروكين لوحدنا. فالخوف موجود في كل لبنان ونحن جزءٌ لا يتجزّأ من وطن الأرز، وقرى دير الأحمر عيّدت جماعياً، وأقامت مهرجاناتها الدينية، وهذه فرصة ليقول الأهالي إننا هنا ومتجذّرون في أرضنا».
صامدون
تُعتبر منطقة دير الأحمر أكبر تجمّع للموارنة في بعلبك، إذ يقدّر عدد سكانها بنحو 60 ألف نسمة، هاجَر قسمٌ منهم الى الخارج، ونزَح قسمٌ آخر نحو ضواحي بيروت الشرقية وأقضية الشمال المسيحي في ظاهرة شبيهة بنزوح السكان من الأرياف نحو المدن ومراكز العمل، لكنّ هذا النزوح لم يقابله بيعٌ للأراضي كما يحصل في بعض الأقضية المسيحيّة.
وفي هذا السياق يجزم المطران عطالله، بأنّ «أهالي بعلبك المسيحيين لن يبيعوا أرضهم، وهم متعلّقون بها وما زالوا يعملون وينتجون ويحصدون محاصيلهم، أمّا الخوف والنزوح فغير موجود، على رغم أنّ التهديدات هي جزء من الحرب النفسية التي تُشنّ علينا، خصوصاً أنّ جرح عرسال لم يُختم بعد، وهناك جنود مخطوفون ينتمون الى المنطقة، ما ترك أثراً بليغاً في نفوس الأهالي كما كل لبنان».
من المعروف أنّ الطابع العشائري والعائلي يغلب على سكان البقاع، وأمام الخطر الداهم نتيجة محاولة الإرهابيين إحتلال عرسال، بدأ عدد من الشبان في البلدات المسيحية بمراقبة البلدة خوفاً من دخول الغرباء بهدف مساعدة الجيش والقوى الأمنية على ضبط الوضع، خصوصاً في البلدات المسيحية الملاصقة للحدود السوريّة، ومنها بلدة القاع التي تسمع صوت القذائف والحرب من جارتها سوريا. فهذه البلدة عانت التهجير أيام السوريين، ويبلغ عدد سكانها نحو 15 ألف نسمة، لكن يقطنها الآن نحو 2000 نسمة.
ويكشف أحد فاعلياتها سمير عوض لـ«الجمهورية»، أنه منذ «بداية الأحداث السورية تعيش البلدة على وقع الحرب. فالمسلّحون قريبون منّا، وقدّ نظّمنا أنفسنا للمراقبة الليلية لكي لا يدخل غريب إلى البلدة»، مؤكداً أنّ «عملنا يهدف الى مساعدة الجيش، فنحن معه وخلفه، وهو يقوم بواجبه كاملاً لحمايتنا».
الدولة تحمينا
ينتقد المسيحيون كل الدعوات والأصوات التي تخرج وتنادي باعتماد الأمن الذاتي، أو تشكيل خلايا على رغم المخاوف التي لا تخفى على أحد، ويصرّون على أنّ الدولة مرجعيتهم الوحيدة، ولا يقفون أو يستنجدون بحزب أو ميليشيا مسلّحة لحمايتهم أو الدفاع عنهم.
وكما في البقاع الشمالي، كذلك، في مدينة زحلة عاصمة الكثلكة، التي شهدت في الآونة الأخيرة إجتماعات مكثّفة لمواكبة الأحداث الأمنية في عرسال والبقاع ومآسي تهجير المسيحيين في الموصل، لكنّ قياداتها تُجمع على أنّ الجيش وحده الحامي. وفي هذا الإطار، يرفض رئيس كتلة «نواب زحلة» طوني أبو خاطر عبر«الجمهورية» كل الدعوات الى إقامة الأمن الذاتي لأنّ «مرجعية المسيحيين هي الدولة وهدفنا تقوية الجيش ومساندته. فزحلة هي البوابة الشرقية للمسيحيين وأيّ إعتداء عليها «لا سمح الله» هو إعتداء على جميع المسيحيين ولبنان».
ويصف الأجواء في المدينة بأنها «إيجابية حالياً بعد انتهاء معركة عرسال»، مشدّداً على أنّ «الجيش والقوى الأمنية يحموننا، في وقت لا تخيفنا التهديدات بعدما فضحت القوى الأمنية أنّ حساب «لواء أحرار السنّة» مزوّر، ولا دخل لسنّة بعلبك أو البقاع به».
لا يستطيع أحدٌ إقتلاعَ شعب من أرضه وتهديده إذا كان متمسّكاً بوجوده، ومسيحيو البقاع متجذّرون بأرضهم، وبالصليب، وسيظلون يعيّدون أعيادهم، وستبقى أجراسهم تقرع بلا خوف أو مهادنة.