قبل أن أمتهن المحاماة ليتكون منها مستقبلي ولترتكز إليها حياتي، مارست مهنة الصحافة في جريدة السياسة البيروتية التي كانت في طليعة جرائد أيامها.
وقد ابتدأت العمل الصحفي في سن مبكرة وأمضيت سنواتي الأولى في الصحافة في الوقت نفسه الذي كنت فيه طالبا في كلية الحقوق.
عند انتسابي لنقابة المحامين، كنت قد كتبت مقالا في جريدة السياسة أنتقدت فيه دولة مجاورة رأيت أنها قد أساءت في بعض من تصرفاتها إلى لبنان وإلى القضايا العربية، وقد أحلت لمحكمة المطبوعات على أثر ذلك بتهمة القدح والذم، ومثلني في المحاكمة أحد المسؤولين الحكوميين السابقين، وكنت قد بدأت في ذلك الوقت تدرجي في مكتبه. وقد جاء استجواب رئيس المحكمة لي على شيء من الحدة. وفي مرافعته دفاعا عني ذكر، وكيلي أن كاتب المقال الذي أصبح منذ وقت قصير محاميا عاملا في إطار نقابة المحامين في بيروت، ينتمي إلى عائلة بيروتية كريمة، وأن والده هو سماحة الشيخ محمد الداعوق، رئيس المحاكم الشرعية آنذاك والمعروف بصفاتـه الطيبـة وإخلاصـه لدينه ولمهنتـه، والمعروف آنـذاك بنهجه التصوفي وأنه قد سمّي إبنه الخاضع للمحاكمة اليوم محمد أمين على إسم أستاذه وشيخه الذي كان يحمل منه الكثير من مزاياه وصلاحه وزهده في الحياة وتفرغه للعبادة وأداء واجباته الدينية جنبا إلى جنب قيامه بواجبه كقاض للقضاة. وتوقف وكيلي عند هذا التعريف ذاكرا أن ابن سماحة الشيخ محمد الداعوق يعايش القضايا الإسلامية والوطنية بكثير من روح وتوجهات والده، وفي هذه البيئة الإسلامية والوطنية الخالصة، لم يكن منتظرا منه إلا ما قال وما كتب، فهو ابن بيئته ولهذا طلب وكيلي أخذ هذا الواقع بعين الإعتبار، وخلص إلى طلب البراءة لي، فجاء الحكم على كثير من التلطيف والتخفيف رغم قساوة محاكم المطبوعات في ذلك الوقت.
كتبت هذه المقدمة وصولا إلى غاية أعلنها بكثير من التأثر وكثير من الشعور بالأسف الشديد، لما آلت إليه أوضاعنا الوطنية والإسلامية في هذه الأيام العصيبة. أكتب وقد اختلط الكثير من الحابل بالكثير من النابل، وانقلبت أحوال دار الفتوى عرين المسلمين في هذا البلد رأسا على عقب. انقلبت الدار، دار الخير والعطاء الديني والوطني والريادة، حيث بدأت هناك مرحلة إفتائية لم تشهد بيروت ولم تشهد الجمهورية اللبنانية مثيلا ولا شبيها لها على صعيد التصرفات السياسية والوطنية، حيث باتت دار الفتوى مع الأسف في المقلب الآخر من الحياة العامة في لبنان، أبعد ما تكون عن حقيقة وكنه المسلمين السنة ونهجهم ودفاعهم عن وجودهم ودرءا للتحديات والمواجهات التي تنهمر عليهم في هذه الأيام العصيبة، بحيث أصبحت دار الفتوى مع الأسف محصورة مقصورة في معظم روادها وأعمدتها وحماتها تعصف فيها أهواء الغزو الخارجي، ويطبق على أفواهها وأياديها ونهج أبنائها جحافل مسلحة منضوية في إطارات المخابرات المختلفة فباتت الدار في نهجها المستجد، جزءا لا يتجزأ من تلك الأهواء والأنواء الجديدة على بيروتنا ولبناننا، وعلى هذه الجمهورية التي ناضل المسلمون كثيرا ليكون مفتيهم، مفتيا لها متجاوزا حصريته ببيروت، فكان لهم ما أرادوا، وعليه أين الإفتاء اليوم من الأوضاع المتميزة والتي كانت لدار الفتوى ولمؤسساتها كافة لطالما فاخر بها المسلمون، حيث تمثلت آنذاك بمفتيها الشهيد سماحة الشيخ حسن خالد، بل والتي تمثلت في مواقف وتصرفات المفتين الأفذاذ الذين سبق أن تولوا هذا المنصب الرفيع، فارتقوا به وبداره ورفعوا معهـم طائفتهم وأبناءهم الى مستوى رفيع ما زلنا حتى اليوم نفاخر به ونعتز بمكرماته.
مـاذا يجري حاليا في دار الفتوى؟ لماذا انقلبت أوضاعها إلى هذا القدر الوفير مـن الإنحدار إلى حد فقد فيه الإتهام موضوعيته ورصانته ومنطقيته، فعندما يتهـم المفتي كلا من الرئيس الشيخ سعد الحريري والرئيس فؤاد السنيورة بالتخطيط لقتله!، ويعلن عن ذلك الاختلاق المزعوم في اكثر من مناسبة، وعندما يذكر أن الرئيس السنيورة يعطل انتخابات الإفتاء، وهذا الإنتخاب لم يستحق بعد ولم يعطله معطل خارج نطاق دار الفتوى التي شرع القائمقام السابق فيها الأبواب كلها أمام كل غريب عجيب من الإنتماءات المذهبية والحزبية، وفي طليعتها الواضحة والمعروفة تلك الانتماءات التي تصب في جذورها العميقة واللصيقة بالميليشيات المحلية التـي باتت منتشرة في داخل ومن حول دار الفتوى، تمدها بالعون والحماية، وتضمها الى قائمة المنتسبين إلى الجهات الممانعة، والتي باتت في طليعة ما تمانعه وحدة المسلمين بكلمتهم وموقفهم وصفوفهم واتجاهاتهم وصفاء موقعهم وموقفهم الوطني.
وبعد. المجلس الشرعي القائم الذي انتمي إليه والذي أترأس لجنته القضائية قد طلب إلى دولة رئيس مجلس الوزراء الأستاذ تمام سلام أن يدعو ووفقا للأصول والقوانين والأنظمة المعتمدة، وبما ينسجم مع الأحكام القانونية وإلزاميتها بما فيه تلك الأحكام الصادرة عن مجلس شورى الدولة، إلى انتخاب مفت جديد، بعد أن عمد المفتي الذي بقي من عمره في الإفتاء بضعة أسابيع، يحاول أن يستغلها لأقصى ما يمكنه أن يحقق خلالها من محاولات شق الصفوف وتعميق الخلافات بين أبناء هذه الأمة.
ويجيء كثيرون ويذهب كثيرون ِ، وتبقى الأمة في رعاية الله عز وجل وحفظه، وربما تكون لنا أكثر من عودة. الى خفايا أو خبايا هذا الموضوع.