IMLebanon

من يدفع ثمن «داعش» واشنطن أم طهران؟

كل ما حدث ويحدث في سورية والعراق لم يدفع الإدارة الأميركية إلى إعادة النظر في أولويات استراتيجيتها. أعلن الرئيس باراك أوباما قبل أكثر من سنتين أن منطقة الشرق الأوسط لم تعد لها الأولوية، التي انتقلت إلى المحيط الهادئ. مثل هذا التوجه يكفي أن يعزز مواقع إيران التي لم تتأخر في ملء الفراغات التي خلفها سقوط نظامي «طالبان» وصدام حسين ويكفي لإيقاظ طموحات الحركات الجهادية الساعية إلى السيطرة على ما تستطيع، لتكرار تجربة أفغانستان أو الصومال أو اليمن ومالي، وهو ما تحقق لـ «داعش» في الأيام الأخيرة. ومن نتائج هذا الانكفاء أو الانسحاب من الإقليم، ما أصاب ويصيب الديبلوماسية الأميركية من ارتباك وضياع في الرد على التحديات سواء في العراق أو في سورية.

غياب الرؤية الديبلوماسية طبعت مواقف الرئيس أوباما منذ اندلاع «الربيع العربي» الذي تزامن مع الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة. لم يحسن التصرف حيال أحداث مصر والبحرين. وفاقمت سياسته حيال سورية الأزمة في هذا البلد. بل كان من نتائج تجاهل دمشق وحلفائها «الخطوط الحمر» التي لوّح بها أكبر الأثر في ما وصلت إليه الأوضاع في بلاد الشام عموماً. وهو بلا شك يتقاسم مع نوري المالكي وأعوانه وحلفائه المسؤولة عن الاندفاعة الأخيرة لـ «داعش». ولا جدال في أن الولايات المتحدة تكاد تخسر معظم مواقعها السياسية في الإقليم. فمصر في ظل حكم عبد الفتاح السيسي لن تكون كما كانت أيام الرئيس حسني مبارك. ستكون القاهرة جزءاً من المنظومة الخليجية التي لم تعد تثق بواشنطن، ولا تلتقي ومقارباتها لأزمات المنطقة، والدور الإيراني الغالب من بيروت إلى بغداد لا يحتاج إلى شرح.

لم يعد من مكان للسياسة الأميركية في المنطقة التي يتنازع السيطرة عليها تيار «الممانعة» وتيار «القاعدة» الجديدة التي لم تتقيد بحدود واعتبارات سياسية. وهي تطرق أبواب بيروت وعمان وستتمدد عملياتها تفجيرات وعمليات انتحارية في عموم المنطقة. ولن يبقى أمام واشنطن سوى خيار وحيد هو التعامل مع إيران وأذرعها في المنطقة، لئلا نقول مراعاة رغباتها وسياساتها. نجحت طهران في دعم حلفائها وتحويلهم أرقاماً صعبة عصية على التغيير في كل من دمشق وبغداد. ولن تتخلى عنهم في المدى المنظور ما دامت المحادثات في شأن الملف النووي لم تنتهِ بعد. لم تكن العقوبات وحدها من دفع الجمهورية الإسلامية إلى معاودة التفاوض في هذا الملف. موقف الرئيس أوباما ورسائله المتكررة إلى الإيرانيين، حتى أيام الرئيس محمود أحمدي نجاد قرأت فيها النخبة المتشددة في طهران حاجة أميركا الملحة إلى تفاهم يسهل عليها مغادرة قواتها العراق ومن بعده أفغانستان. وقرأت فيها حاجتها إلى شرق أوسط يتمتع بالحد الأدنى من الاستقرار، ما يتيح لها الانكفاء الآمن نحو المحيط الهادئ. ألم توافق واشنطن عام 2010 على التمديد ولاية ثانية لنوري المالكي نزولاً عند رغبة إيران؟

إدارة الظهر للشرق الأوسط لن تمر بلا ثمن. إن اضطراب الإقليم بعد اندفاعة «داعش» يهدد بلا شك المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، ويهدد أمن إسرائيل واستقرار الأردن ودول الخليج، وكذلك أمن الطاقة، إن لم يكن لأميركا التي تتجه إلى الاكتفاء الذاتي من النفط والغاز، فلحلفائها وشركائها، من أوروبا إلى اليابان وغيرهما من دول جنوب شرق آسيا. وسيشكل جيش المقاتلين الجهاديين الآتين من الغرب أكبر هاجس أمني لدول الاتحاد الأوروبي وأمن مجتمعاته. ولن تكون إيران بمنأى عن هذا الخطر. لن تنعم خريطة مواقعها في العالم العربي بالهدوء، ستتآكل مصالحها وتتقلص حدود نفوذها كلما أمعنت في تحدي غالبية أهل الإقليم ودفعهم إلى خيارين لا ثالث لهما: إما حلفاؤها وإما «الدولة الإسلامية». وهي تجد نفسها في العراق اليوم، كما في سورية، جزءاً من الحرب الأهلية والمذهبية المفتوحة. والواضح أن ليس هذا ما يريده الرئيس حسن روحاني الراغب في تسويات رغبته في النهوض بالاقتصاد والحؤول دون انهيار البلاد، فهل ينجح في فرض سياسته أم يعجز عن مقاومة «المقاومين» و «الممانعين»؟

ربما رأى تيار الصقور في إيران أن الولايات المتحدة وحلفاءها في المنطقة يجدون أنفسهم في مأزق كبير حيال ما يجري في العراق، لذلك لن يكون أمامهم ســــوى تقديم تنازلات إلى طهران في الملف النووي للمساهمة في مواجهة تمدد «داعش». ولكن يغيب عن هؤلاء أن بلادهم بدأت الانخراط الميداني، تماماً كما يفعل الأميركيـــون، لوقف تقدم «الدولة الإسلامية». وستجـــد طهران نفسها هي الأخرى أمام خــيارين لا ثالث لهما: إما التخلي عن نوري المالكي والحفاظ على جزء كبير من نفوذها في بغداد، أو تهديد هذا النفوذ في العراق وسورية أيضاً. لن يفيد الصقور أن يقارنوا بين ما قدمته الجمهورية الإسلامية إلى نظـــام الرئيس بشار الأسد لبقائه على رأس السلطة، لاعتماد الصيغة نفسها في مواجهة «الدولة الإسلامية». لا يمكن إيران أن تستنزف مواردها المالية القليلة لدعم نظامين معاً. ولا يمكنها أن تدفع بقوات كبيـــرة والتدخل مباشرة في خوض حرب واســــعة في بلاد الشام ستنظر إليها الغالبية السنية في الإقليم حرباً مذهبية. ولن تتوانى هذه الغالبية عن المواجهة، ليس دفاعاً عن «داعش» بل تحت عنوان مقاومة «الاحتلال» الجديد. فضلاً عن أن خروج إقليم سني عن سيطرة بغداد وسيطرته على الحدود مع سورية، سيطرح مشكلة لوجستية أمام كل أشكال الدعم الذي تقدمه الآلة الإيرانية إلى كل من النظام في دمشق وحلفائه في لبنان.

قد يرى المتشددون في إيران ما يجري في العراق تطوراً يصب في مصلحة بلادهم. وهو ما سيدفع إدارة الرئيس أوباما إلى تقديم بعض التنازلات في الملف النووي قبل أن يقوم تفاهم مشترك معها على مواجهة «داعش». لكن الأمر أكثر تعقيداً. لا يكفي أن يقوم التفاهم السياسي الثنائي هذا للعودة بالعراق إلى ما كان، ففي مواجهة هذه الهبة الإقليمية والدولية لمواجهة «الدولة الإسلامية»، يرى خصوم طهران والمعترضون على السياسة الأميركية ما حدث في المحافظات الشمالية والغربية في العراق «ثورة» لا يمكن إخمادها من دون تفاهمات أوسع تشمل أهل السنة في هذه المحافظات والدول العربية، التي لن يروق لها التدخل الإيراني الميداني في كل بلاد الشام. وما لم يقم مثل هذه التفاهمات سيكون صعباً القضاء عسكرياً على «داعش»، ليس لأن هذه «الدولة» تملك جيشاً كبيراً وتمتلك من العتاد ومصادر التمويل ما يمكّنها من المقاومة، بل لأنها تتحرك في بيئات حاضنة ورافضة للأوضاع القائمة في كل من بغداد ودمشق، ولن تتوانى هذه البيئات عن الدفاع والمقاومة. ولن تتخلى هي ومن يتعاطف معها في الخارج عن هذا «السلاح» الورقة في مواجهة أسلحة إيران وأذرعها في بلاد الشام. وما يزيد الوضع تعقيداً أن التسوية السياسية لا يمكن أن ترى النور قبل دحر هذا التنظيم الممسك فعلياً بمقاليد السلطة والسيطرة. وما لم تتوافر ضمانات أكيدة ووسائل دعم حقيقية لأهل السنة، فإن هؤلاء لن يجازفوا بتكرار تجربة «الصحوات».

لعل هؤلاء المتشددين ومن يواليهم يبالغون في انتظار ثمار التهافت الأميركي والغربي عموماً على وجوب مواجهة «داعش» سريعا. يعتقد بعضهم أن الإدارة الأميركية وشركاءها سيجدون أن لا مفر من إعادة النظر في سياساتهم حيال «الأزمة الشامية» برمتها، أي إعادة النظر في مواقفهم من حكم الرئيس بشار الأسد وحكومة نوري المالكي، أو بالأحرى في المرحلة التالية لرحيل هذين الحكمين، بما يحفظ لإيران الدور والنفوذ والحضور الواسع. لكن مرحلة الانتظار هذه سيف ذو حدين، فكلما تأخرت مواجهة «الدولة الإسلامية» بعد تفاهمات سياسية تشرك جميع اللاعبين والمتورطين في العراق وسورية، وحتى لبنان، ستشمل الأخطار والتهديدات هذه الأطراف كافة. ولعل الضغوط التي يمارسها أهل كردستان تستعجل مثل هذه التفاهمات، فهم قد لا يعلنون الاستقلال، كما يشتهون أو يستعجلون إذا ما واجهوا معارضة كتلك التي بدأت تلوح في إيران وتركيا بعد أميركا، إلا أنهم لن يكونوا مستعدين للعودة إلى ما قبل حركة «داعش». كما أنهم لن يستكينوا على حدود «الدولة» الجديدة. فهل يكون فشل الفيديرالية مدخلاً إلى طرح الكونفيدرالية وتعميمها في سورية أيضاً الحل الوحيد؟ إضاعة مزيد من الوقت لا يخدم أحداً من المتورطين الذين دفعتهم «داعش» إلى لعبة «روليت روسية» لن يعرف أحد منهم من سيكون ضحيتها الكبرى، فهل يعيد أوباما النظر في استراتيجيته ويعود إلى التلويح بسياسة القوة للحفاظ على ما بقي من صورة أميركا قوة قائدة، ولإعادة التوازن في الشرق الأوسط؟ وهل يتجاوز روحاني اعتراض المعترضين ويقدم «الضحايا»، أو التنازلات المطلوبة في بغداد ودمشق… وبيروت؟ لا مجال للعودة إلى الوراء. ما قبل «داعش» شيء وما بعدها شيء آخر.