IMLebanon

من «15 أيار» إلى ما بعد بعد «25 أيار»

 

العالم يتغير كثيراً. تكاد لا تجد مستقراً. تُهدرُ المناسبات والأحداث والآمال بسرعة القتل. تلزم لحظات قصيرة لإلغاء أعوام وعقود. سرعة التحولات تشبه فعل الانهيارات واجتماع الركام… عالم، لا صمت فيه، ولا محطة انتظار أو هنيهة توقف. المستقبل عملية غزو للحاضر. الكلام، خدعة سمعية، إلا للذين يصنعون الكلام، قبل النطق به… التاريخ كله، بتصرف السرعة.

وحظنا نحن العرب، في هذا السيلان، ممارسة الحرب وخسارتها والبناء على الهزيمة والتعويض عن الأطلال بناطحات الهواء… العالم ينخرط في المستقبل، ونحن العرب، «ماضٍ لا يمضي» وحاضر لا يحضر ومستقبل لا يأتي. أوثان مثقوبة ومنخورة. شيء من فصيلة التخلف وملذة الإقامة في العجز، بفحولة مالية ونفطية ودينية ومذهبية وقبلية مجيدة… شيء من السراب الذي تكذب رماله وأفكاره وعقائده وأديانه وثقافاته وتياراته و«دوله» وأنظمته، فلا يبقى منها عند الاقتراب، غير مرارة الاكتشاف…

إلا الخامس عشر من أيار. هذا تاريخ لم يتغيّر. النكبة مقيمة منذ العام 1948 ومنتشرة، وهي ليست من جنس السراب، وإن كان الأكثر منا، يرغب بالنسيان، مفضلاً الإقامة بعيداً عنها… في الخامس عشر من أيار، ولدت إسرائيل، بطقس دولي التأم فيه كارل ماركس وجون ستيوارت ميل ومنظومة حقوق الإنسان ومجموعة المجتمع الدولي (مجموعة قراصنة)… الخامس عشر من أيار، تاريخ الأصل الفعلي للكوارث العربية، للحروب على فلسطين وحول فلسطين، ففلسطين المغيّبة، هي المشهد الخلفي للسياسات والحروب والوقائع، أو هي المشهد برمته، وتلاحقنا أنى اختبأنا.

إلا الخامس عشر من أيار. هذا تاريخ أساس، لا يتغير. لا يشبهه تاريخ زائل، ولا تاريخ مقيم. في هذا اليوم، ارتكبت جريمة القرن العشرين. جريمة جرّت جرائم. جريمة إحلال شعب موزع في العالم، مكان شعب مقيم، منذ البدء، منذ ما قبل اليهودية وما قبل المسيحية وما قبل الإسلام، وما قبل بلفور وما قبل الصهيونية.

لا ذنب لفلسطين في ما ارتكب بحق اليهود في العالم. عوقبت فلسطين لجريمة ارتكبها الغرب مراراً على مدى عصور، وأنهاها بمحرقة نازية هي الأفظع في التاريخ… غسلت أوروبا يديها من جرائمها المتمادية، بارتكاب جريمة جمع الشتات اليهودي، وتبديد الفلسطينيين في الشتات.

إسرائيل، هي الخطيئة الأصلية. هي شيء ينتسب إلى اللعنة، بالمفهوم التراجيدي الإغريقي.

[[[

العالم يتغير بسرعة مذهلة. كان من المفترض أن يختفي الخامس عشر من أيار، من الذاكرة، لكن النكبة متمادية والجريمة مستمرة، يومياً، ضد فلسطين.

كان من المفترض ان يصبح الخامس عشر من أيار، ماضياً منسياً. يحوز على رضى التجاهل. لكن ذلك لم يحصل. أو، في أسوأ الأحوال، لم يحصل بعد. اسرائيل الساعية لشطب النكبة من كتب الفلسطينيين في فلسطين الـ48، تسعى بكل ما أوتيت من عنصرية «مقنعة» للغرب العلماني والديموقراطي، وصاحب التجارة الممتازة ببضاعة حقوق الإنسان، لشطب فلسطين بكاملها وكانت اسرائيل على وشك انتزاع قبول فلسطيني بالانتحار، عبر تبني «إسرائيل كدولة قومية لليهود فقط، أو دولة اليهود فقط. على أن يصبح الفلسطينيون أهل ذمّة لدى دول عربية، قريبة أو نائية. توهمت أن الفلسطيني باعترافه، لن يكون فلسطينياً إلى الأبد، وأن الخامس عشر من أيار، سيستحوذ على معنى واحد: نشوء واستقلال دولة إسرائيل.

لم تنجح إسرائيل في شطب الفلسطيني وفي اكمال مشروعها الصهيوني. حاولت. همها الأول والأخير، الانتهاء من القضية الفلسطينية إلى الأبد، بحيث لا يعود أحد في الدنيا، أو في هذا الكوكب، يأتي على ذكر فلسطين والفلسطينيين… فشلت مراراً. فشلت بحروبها المنتصرة. احتلت فلسطين بالكامل، ولا تزال فلسطين المحتلة الضعيفة المهشمة المتروكة تلاحقها. حلت مشكلتها مع مصر، حلت مسألتها مع الأردن، توسعت في السر والعلن عربياً. وصلت المغرب، حصلت على مقعد ممتاز في تونس (سابقاً). دول الخليج تستدعيها لحضور مؤتمراتها، ومع ذلك، فهي ليست قلقة إلا من الفلسطيني ولادة وانتماء واختياراً، حتى ولو كان أعزل، وممن يحمل قضية فلسطين اعلاماً وثقافة وسلاحاً.

كان من المفترض ان تنتهي إسرائيل من ذكرى النكبة، لتعلن باحتفاء دولي وعربي قيام اسرائيل إلى الأبد في أرض «آبائها وأجدادها»، وفق الوعد التوراتي المزعوم، ووفق الخريطة الصهيونية المتوهمة… لم تفلح. ظل الخامس عشر من أيار يحمل ختم النكبة، ولا يزال أهل النكبة، فلسطينيين في أرضهم، في ضفتهم، في غزتهم، في مخيماتهم، وفي شتاتهم العميم.

منذ البداية، وحلم إسرائيل الأول، الانتهاء من قضية فلسطين. لم تشأ منذ العهود الأولى أن تعترف بشيء يدعى فلسطين. فهي «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض». غولدا مائير صرّحت بأنها لا تعرف شعباً فلسطينياً، وفلسطين وَهْمٌ وخرافة. كانت تكذب. وكذبتها تشرعنها الرغبة في ان تكون فلسطين كلها بعض إسرائيل. لا خطر على إسرائيل، إلا من فلسطين، ففلسطين لا تتسع لشعبين «بقوميتين» بل لا تتسع لشعب غاز مستقوٍ على شعب أعزل مستضعف، معتصم بالحق والأرض والتاريخ والغد.

خفت الصوت الفلسطيني عقداً من الزمن تقريباً. إسرائيل فرضت احتلالها على قسم من فلسطين، والأنظمة فرضت الصمت والقمع على الفلسطيني، وفضّلت تحويل القضية إلى سلعة تجارية وعملة إعلامية، لإضفاء شرعية «وطنية» أو «قومية» على أنظمة عشوائية، بلا شرعية شعبية.

مع عبد الناصر، استيقظ الحلم الفلسطيني مارداً. بعد العدوان الثلاثي على مصر، انفتح أفق عربي لفلسطين، ما لبث ان سقط في حزيران. حرب حزيران أكبر من نكبة. حرب تشرين انتهت بمعاهدة صلح مع مصر، وملحق بها يعطي الفلسطينيين كيانا يدار ذاتيا، لم يرَ النور أبداً.

من هذا الظلام العربي الفاحم، خرج الفدائي الفلسطيني. امتشق سلاحه ومضى، ولكنه لم يصل. قاتل عدوه، وقتله «أخوته». العدو الذي كان أمامه، أقل قوة من الأخوة الأعداء الذين تصيدوه في الأردن… وفي لبنان، وحاصروه في سوريا ومنعوه في مصر.

لجأ الفلسطيني بعدما سدت الطرق إلى فلسطين إلى الانتفاضة الأولى، ثم إلى الثانية، فيما كانت القاطرة العربية تهرول وفق خط سير انحداري بعيد عن فلسطين. الأنظمة غرقت في حماية ذاتها من شعوبها. الدول فضلت صيغة «أنا أولاً»، وبالغت في القطرية والانعزالية، حتى خنقت كل من يشذ عن خطاب الملك أو الرئيس أو الزعيم أو الأمير… أنظمة قومية مستبدة، أنظمة ملكية عابثة، أنظمة سياسية مهلهلة، أحزاب مقموعة أو مخلّعة أو مؤجرة إلى السلطات. إعلام هجر المعركة وفضل التشيع للاستهلاك والواقعية (الانتهازية). تحولت الثقافة بعد ذلك إلى شتم القضايا القومية والوحدة والتضامن والثورة واليسار والطبقة، وتم تسيير مقولات الغرب. والحل السلمي، والتفاوض، والاتكال على أميركا أو على اليسار الإسرائيلي.

ترك الفلسطيني وحيداً. والتأم شمل العرب في هيئات ومؤسسات فاشلة عن عمد. عاد أبو عمار إلى حفنة من فلسطين، فانتزعت منه بالكامل، كما انتزعت منه حياته غدراً وقتلاً. وها هي فلسطين متروكة، لبؤسها وعجزها وشقائها وانعدام الأمل، إلا من «أصحاب الأمعاء الخاوية» آخر وسيلة نبيلة من وسائل النضال ضد الظلم والاحتلال.

[[[

لم يمت الخامس عشر من أيار. اسرائيل لا تنعم باعتراف فلسطيني بأن تكون دولة يهودية. لا تنعم باعتراف شعبي فلسطيني. لا تنعم باطمئنان وسلام. ستبقى ثكنة عسكرية محاطة بأعداء، ولو ابتسموا لها، لضيق ذات اليد نضاليا… الفلسطيني اليوم، في حالة يرثى لها، ومع ذلك، لن يوقع على إلغائه، ولن يقبل بيهودية الدولة. فلسطين المغيبة لا تزال موجودة، اكثر من كل هذا الهراء السياسي. لها حضور أكبر من كل هذا التمذهب المتخلف والمدمر، الذي ورث «الربيع العربي». فلسطين المستباحة، المحتلة، المخضّبة، المتروكة، أقوى من أنظمة الاستبداد القومي والعسكري والملكي. تلك ممالك وأنظمة سائبة وزائلة. أما فلسطين، وهي على الحافة، تفيض حياة وقوة… ما استطاعت إسرائيل ان تمحو ذكرها ولا ان تستبعد وجودها.

النكبة، هي الأصل في انتمائنا إلى فلسطين. لم يعترف الكثيرون من جيل النكبة، بأن فلسطين قابلة للانتهاء أو الأفول. نكسة حزيران التي شلّعت إيمان المناضلين والحالمين بالتحرير، لأَمَتْها مقاومة الفدائيين. صار الأمل وعداً. ولما أخرجت المقاومة ذبحاً من عمان، وقصفا وحصاراً من بيروت، التأم شمل البنادق اللبنانية لمقاومة العدو الإسرائيلي… هنا، كانت المنازلة الكبرى. هنا، كانت الحرب الحقيقية، ضد إسرائيل.

المقاومة اللبنانية، شريكة المقاومة الفلسطينية قبل حزيران 82، ووريثتها بعد ذلك التاريخ، طردت الجيش الإسرائيلي من بيروت، طاردته في الجبل، لاحقته في الإقليم، أذلته في صيدا، استنزفته في الجنوب، حتى استسلم وخرج من بوابة فاطمة، إلى جنوب الجنوب.

[[[

الخامس والعشرون من أيار، أعاد الأمل الفلسطيني إلى أصله. انتفاضة الأقصى بعد التحرير كانت رافعة فلسطينية في زمن تصعد فيه الأمة إلى موقع التأثير وكان الإسرائيلي ينكفئ عن لبنان، بعد محاولة أرييل شارون حل القضية الفلسطينية برمتها.

وللتاريخ، ولو جاء متأخراً عشر سنوات، يذكر ايهودا باراك، بمناسبة انسحاب جيشه (في عهد حكومته) من جنوب لبنان، بأن مشروع شارون قد فشل منذ البداية، وما كان ضرورياً البقاء في لبنان أبداً. فماذا كان مشروع شارون:

أولا: تنصيب حكم موال لإسرائيل.

ثانياً: طرد الفلسطينيين من لبنان، وليس منظمة التحرير فقط.

ثالثاً: إقامة دولة للفلسطينيين في شرق الأردن.

كانت مجزرة صبرا وشاتيلا، البوابة التي أرادها شارون مفتوحة، لإرهاب الفلسطينيين ودفعهم إلى الخروج من لبنان نهائياً.

المقاومة اللبنانية، أجهزت على مشروع شارون. وباتت المقاومة نموذجاً عربياً يقتدى به، لولا أمرين اثنين: الأول بن لادن يقوم بغزوة نيويورك، فيتغير العالم، وتصبح الحرب على الارهاب عنوانا دولياً. ترجمته اسرائيل، بأعنف اجتياح لمناطق السلطة، باعتبار أبو عمار، هو بن لادن الفلسطيني. العدو الارهابي رقم واحد. الثاني: إغراق وسائل الإعلام في العالم العربي، الخليجية المتأسلمة، بدعاوى التشييع التي تقوم بها إيران و«حزب الله».

العدو الإسرائيلي، لم ينسنا فلسطين. أما الإسلام السياسي البربري المذهبي، فقد استبدل فلسطين، بمعركة الجمل، وأحزاب التكفير ومواقع القتل والسحل على الهوية.

لقد تغير العالم كثيراً. لقد تغير العرب كثيراً. «الربيع العربي» نجا في تونس فقط، حتى الآن. تم تحويله إلى حروب أهلية ومذهبية وعشائرية، يشترك فيها العالم كله. وفي هذا السيل الجارف الموحل والدامي، تقدم العداء الطائفي الديني والاثني، على كل ما عداه.

إلا قلة ثابتة على إيمانها. بوصلتها فلسطين، نجمتها بيت لحم، قبلتها القدس، امواجها الحرية، واحدى محطاتها المقاومة في لبنان.

خلف ما يجري من عبث دموي مجنون، باسم الدين، محاولة بائسة لتسميم فلسطين بالمذهبية. «حماس» ارتكبت. بعض المخيمات ارتبكت. إنما، ظل في لبنان، من يسهر على فلسطين، ومن هو مستعد ليكون سندها، عندما تحين الساعة.

فلسطين في لبنان، بأمان. برغم هلوسات الضجيج. لا طحين في دواليب الهوا السياسية. فلسطين في الضفة، بأمان، طالما ترفض السلطة الاعتراف بيهودية الدولة.

الخامس عشر من أيار، يوم النكبة.

الخامس والعشرون من أيار، يوم الانتصار.

والانتساب إلى النكبة، أفقه ما بعد بعد الخامس والعشرين من أيار.