سيصعب كثيراً إقناع شريحة من اللبنانيين أن عرسال باتت خارج قبضة “داعش” وأخواتها ويصعب اكثر إقناع الشريحة إياها بأن تضحيات عناصر الجيش وجهود ضباطه في الميدان لم تذهب في دهاليز الصورة الاعلامية المشوّشة وفي متاهات الحقيقة الضائعة. فثمة خيبة أمل وبالاختصار ثمة من بات يتهم كل من يتعيّن أن يديروا المعركة التي فتحها الارهاب الفالت من عقاله على الجيش والوطن، أو على الاقل بعدم تقديم صورة شفافة عن مسار هذه المواجهة التي بدأت السبت الماضي وعن نتائجها وما اعتراها من أسرار عسكرية وسياسية على حد سواء. فحتى الساعة لم تقدم جردة بالعدد الحقيقي والنهائي للجنود الشهداء ولأولئك الذين اعتبروا في عداد المفقودين أو الذين هم في قبضة المسلحين ولتاريخه لم تعرف أرقام قتلى الارهابيين الذين اعتدوا على سيادة الوطن.
وأبعد من ذلك لم يجرؤ أحد على نقل المعطيات من عمق البلدة الجريحة ليؤكد لمن يهمهم الأمر صحة المعلومات التي عملت جهات معروفة على تعميمها وجوهرها، أن البلدة إياها خلت تماماً من أي وجود لأي مسلحين. فمراسلي وسائل الاعلام لم يتجاوزوا حدود مدخل البلدة.
وحيال هذا المشهد الذي يكتنفه الغموض والالتباس ثمة إسقاط لكل التعهدات التي أطلقت من هذا الطرف المعني أو تلك الجهة المسؤولة بأن لا تفاوض مع الغزاة الداعشيين ولا مساومة معهم اذ وفي خلاصة المشهد ومحصلة الموقف حقق المعتدون جل غاياتهم وفرضوا أمراً واقعاً لمصلحتهم ولمصلحة من يوالونهم.
لم يكن رئيس مجلس النواب نبيه بري خاطئاً في قراءته العميقة للتطورات المتسارعة خلال أيام الأسبوع الماضي والتي كانت عصارتها الآتي: أن الوضع بعد إحداث عرسال الأخيرة هو غير ما قبله، فلا ريب أن هذه الأحداث وما تخللها وما تمخضّت عنه ميدانياً وسياسياً قد أرست وفق قراءة دوائر معينة مولجة بوضع تقدير موقف لما حصل، جملة وقائع ومعطيات جديدة لا يمكن من الآن فصاعداً تجاوزها وأبرزها:
– إذا كان ثمة من أراد أن تكون أحداث الأيام القليلة الماضية في عرسال وجرودها قنطرة عبور الى مقامات أرفع فإنه لم يكن موفقاً أو أن الرياح لم تسر وفق ما شاءته سفنه.
– إن التطورات التي شهدها الشارع السني على وهج الأحداث والتطورات الدراماتيكية في البلدة البقاعية الطرفية أظهرت لبعض الدوائر في قوى 8 آذار أن ثمة من بدأ يتكلم وكأن امرة هذا الشارع قد باتت معقودة له ولم تعد في قبضة تيار المستقبل حصراً. ولا تخفي الدوائر عينها أن من جملة الأسباب التي عجلت بعودة زعيم التيار الرئيس سعد الحريري رغبته في إعادة وصل ما انقطع واستعادة ما فقد خلال سني منفاه الطوعي. ولا يغيب عن بال الدوائر عينها أن قيادة “المستقبل” بدأت تستشعر هواجس ومخاوف شتى خصوصاً بعد الانقسام العمودي في مواقف نواب وقيادات محسوبة على التيار حيال أحداث عرسال ولا سيما الموقف من المؤسسة العسكرية.
– لم تكن أحداث عرسال وخصوصاً الهجمة الهمجية على المؤسسة العسكرية على قدر توقعات البعض فرصة لموقف وطني موحد يعيد جمع الشتات ويخفف من منسوب الانقسام فالأحداث عينها قسمت المقسّم وجزأت المجزئ.
– الاحداث في عرسال عززت مخاوف الخائفين على تبدد النظرية التي سادت طوال الاعوام الثلاثة المنصرمة وفحواها ان ثمة هامشاً محدداً ممنوع تجاوزه في مسألة الاستقرار والتوازن الداخلي اذ ان ثمة من بات بعد اندلاع الاحداث في عرسال وامكان ان تستأنف بين لحظة أو أخرى، يعيش على قناعة أن هناك من يريد ادخال تعديلات على قواعد اللعبة المألوفة والمعروفة.
وحيال ذلك المشهد الحالك فلا شك أن ثمة من بدأ يطرح سؤالاً مفاده إذا كان استشعار رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي لوباء داعش قد دفعه الى التخلي عن كثير من محرماته وثوابته المعروفة وجعلته يقوم بالحراك اللافت الذي بدأه منذ أيام وقاده أولاً الى الضاحية الجنوبية للاجتماع بالأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله ثم أصعده الى الرابية للقاء العماد ميشال عون ودفعه تالياً لإطلاق المواقف التي أطلقها فهل يمكن أن تكون خطورة اللحظة منطلقاً لبدء الرهان على تسوية سياسية كبرى داخلية قد يكون من بين معالمها غير المرئية ومقدماتها عودة الحريري.
لا يمكن أي مراقب إسقاط هذه الفرضية نهائياً من حساباته خصوصاً أن ثمة من يتكهن بأن الحريري ما كان ليعود لم لم تكن هناك بوادر ومقدمات أقنعته أو شجعته على إلغاء موانع عودته سابقاً ولكن حتى الآن لا يمكن الجزم بذلك فالتراشق والتصعيد السياسي لم يزل على خط توتره العالي. ومع ذلك فإن مرحلة ما بعد أحداث عرسال ربما بدأت تفرض نفسها وأبرز خطوطها العريضة أن الطبقة السياسية الحاكمة لم تكن على قدر الآمال المعقودة عليها في مواجهة خطر خارجي بدأ يعلن جهاراً عزمه التسلل الى أروقة البيت الداخلي وفرض نفسه أمراً واقعاً ورقماً صعباً يتعين أن يتم التعامل معه شاء من شاء وأبى من أبى.