عطّل «حزب الله» حياة اللبنانيين لأكثر من عشرة أشهر بسبب تمسّكه المستميت بمعادلتَي 9-9-8 والثلاثية الخشبية، فيما فتح تنازله عنهما الباب أمام تأليف الحكومة، علماً أنّ 14 آذار كان بإمكانها عدم ملاقاته سريعاً بغية دفعه إلى مزيد من التنازلات، ولكن ما يهمّ اليوم ليس صوابية موقف 14 أو عدمه من هذه المسألة، إنّما اضطرار الحزب إلى خفض سقف شروطه نتيجة عوامل داخلية وأخرى خارجية، ما يعني أنّ ما حصل حكومياً من خلال تصلّب 14 آذار يمكن تكراره رئاسياً؟
ومن هذا المنطلق، فأيّ كلام من قبيل «لا بدّ من تسوية» طالما إنّه لن يطرأ أيّ جديد على الاستحقاق الرئاسي في حال استمرّت الأمور على ما هي عليه بين ترشيح معلن للدكتور سمير جعجع ومضمَر- مُعلن للعماد ميشال عون، في ظلّ اقتراب انتهاء المهلة الدستورية، يُعتَبَر خطأً مميتاً بالنسبة لشخصية قيادية في قوى 14 آذار، وذلك للأسباب الآتية:
أوّلاً، مَن يعطّل الاستحقاق والنصاب هو عون، وبالتالي لا حاجة لبعض قوى 14 آذار أن تكون «مَلكية أكثر من الملك»، حيث يفترض بها التصويب على عون وتحميله مسؤولية تفريغ الرئاسة الأولى ومخالفة الدستور والتراجع عن تعهّداته في بكركي، بدلاً من البحث عن تسوية تقدّم فيها تنازلات قبل أوانها وتصبّ في مصلحة 8 آذار.
ثانياً، الفراغ يتحمّل مسؤوليته عون الذي يخشى أن يشكّل توفيره النصاب مدخلاً لانتخاب غيره، وبالتالي على قوى 14 آذار أن تردّ على تعطيل النصاب بتمسّكها بترشيح جعجع حتى النهاية.
ثالثاً، الطرف الذي يجب أن يخشى من الفراغ هو 8 آذار، لأنّ التجربة من الدوحة إلى الحكومة السلامية دلّت وأثبتت أنّ التدخّلات الدولية صبّت لمصلحة 14 آذار عبر استبعاد عون رئاسياً على رغم «الانتصار» العسكري في 7 آيار، وبجَرّ «حزب الله» إلى تقديم تنازلات لتأليف الحكومة، على رغم أنّ ميزان القوى العسكري ما زال لصالحه.
رابعاً، تمسّك 14 آذار بمرشّحها وسقفها الوطني إلى حين نضوج ظروف التسوية الدولية والإقليمية، أو إلى حين تحوّل الضغوط الخارجية إلى جدّية لانتخاب رئيس، يتيح لها إيصال أحد مرشّحيها الثلاثة (سمير جعجع، أمين الجميّل، وبطرس حرب)، بدلاً من البحث عن مرشّح يبدأ من حيث بدأ سليمان أو ما دون.
خامساً، التمايز في المواقف بين مكوّنات 14 آذار، والمزايدة على طريقة أم الصبي بالحِرص على تجنّب الفراغ، وتقديم التنازلات من «كيس» رئاسة الجمهورية مقابل الظهور بمظهر رجل الدولة وغيره، يفوّت على الحركة الاستقلالية فرصة تعزيز حضورها ودورها بدءاً من الرئاسة الأولى.
سادساً، رفضُ أيّ تسوية رئاسية لا توصِل مرشّحاً من 14 آذار أو يحمل برنامجها، أي إنّه على غرار تمسّك عون بترشّحه ورفضه الانسحاب لغيره، على قوى 14 آذار أن تتمسّك بإيصال مرشّح من صفوفها ورفض الانسحاب لغيرها. وهذا الموقف يولّد دينامية دولية-إقليمية ضاغطة على الكُتل النيابية للمشاركة في العملية الانتخابية والاختيار بين جعجع وعون، وتحميل كلّ مَن يتخلّف عن القيام بدوره المسؤولية أمام الداخل والخارج.
سابعاً، إستنساخ المواجهة الحكومية رئاسياً، حيث إنّ رفض 14 آذار أيّ مساومة على موقع رئاسة الحكومة في المرحلة الأولى، كما رفضها التسليم بالمعادلة الرقمية للتأليف والخشبية للبيان في المرحلة اللاحقة، مكّناها من تحسين شروط مواجهتها، وبالتالي وضعُها اليوم سقفاً ثابتاً ومَرِناً لمعركتها الرئاسية يتيح لها تحقيق خرق ٍمُهمّ، خصوصاً أنّ هذا السقف قد حدّده الدكتور جعجع بإبدائه الاستعداد للتنازل حصراً للجميّل أو حرب، في خطوةٍ أقفلَ عبرها الباب على كلّ المحاولات الرامية إلى شقّ صفوف 14 آذار، وأظهرَ بالملموس أنّ فرَص الجميع متساوية.
فالتنازل بهذا المعنى هو خطّ أحمر، لأنه يضرب كلّ المسار الذي أسّس له رئيس «القوات» عبر ترشيحه، كما يضرب كلّ المناخ الذي أوجدته بكركي بضرورة وصول شخصية تمثيلية تحمل الثوابت الوطنية التي وضعتها في وثيقتها السياسية، وبالتالي لا مشكلة بالفراغ الذي يتحمّله الطرف الآخر وصولاً إلى انتخاب الرئيس الذي يستكمل ما وصل إليه الرئيس سليمان.
ومن هنا، فالمعركة بعد 25 الجاري مزدوجة: الأولى، رفضُ استمرار الحياة السياسية وكأنّ شيئاً لم يكن، وذلك عبر جعلِ المؤسسات الدستورية في وضعية تصريف الأعمال كوسيلة ضغط لإبقاء الأولوية لانتخاب رئيس للجمهورية. والمعركة الأخرى هي التمسّك بترشيح الدكتور جعجع من أجل إيصاله، أو الوصول إلى تسوية تستثني شخصَه لا برنامجه الذي لا يمكن أن يحمله إلّا مرشّح من 14 آذار. ولكنّ استبعادَ رئيس «القوات» وبرنامجه هزيمةٌ للحركة الاستقلالية التي لا يُفترض بها التسليم في هذه التسوية أو تغطيتها تحت أيّ ظرف كان، وبالتالي التحدّي الأساس: من يتنازل أوّلاً؟