في المبدأ من الطبيعي أن تواكب الساحة اللبنانية التطورات الأمنية والعسكرية الهائلة التي تشهدها الساحات القريبة منها، وخصوصاً سوريا والعراق.
من البديهي الاستنتاج أنّ زلزالاً بحجم الزلزال الذي يضرب العراق ويمتدّ الى سوريا، لا بد أن يطاول الاستقرار الامني في لبنان، البلد الذي يجمَع، الى التواصل الجغرافي، تزاوجاً في المشاكل السياسية التي تشكل عناوين النزاع الراهن، إضافة الى أنّ الساحة اللبنانية شكلت ولا تزال ساحة مواجِهة في الحرب الدائرة ما بين ايران والسعودية أو وفق العنوان الاكثر تأثيراً: الحرب السنيّة – الشيعيّة.
كل ذلك صحيح، لكن لتحرّك الساحة اللبنانية أسباباً إضافية إن لم تكن أكثر أهمية وتتعلّق بالتوظيف السياسي. فالدخان المتصاعد في العراق يحجب الرؤية عن النزاع السياسي الحاد الدائر في شأن إعادة تكوين السلطة العراقية، لأنّ تمدّد «داعش» والسماح له بإبراز مخالبه، لا بل باستعمالها، يأتي في اطار مكابرة كل فريق لتطويع خصومه على قاعدة عَضّ الاصابع ومَن يصرخ اولاً.
فالولايات المتحدة الاميركية التي «واكبت» الانقلاب السنّي تبدو موافقة على تهديد مساحات النفوذ الايراني داخل العراق، لا بل حتى على تهديد الحدود الايرانية وزيادة التعقيدات في الداخل السوري. وفيما يبدو أنّ واشنطن لم تسمع موافقة ايرانية حاسمة على استبدال رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بشخصية أخرى، حتى ولو كانت قريبة من طهران سياسياً، فإنّ القيادة العسكرية الاميركية، التي تحلق طائراتها في السماء العراقية، تكتفي بمهمة جمع المعلومات الثمينة عن خفايا «داعش» وخلاياها التي انتشرت في الشوارع والازقة، لتؤسِّس «بنك اهداف» تستعمله عندما تسمح اللحظة السياسية بإعطاء الضوء الاخضر لطائرات «الدرونز» للبدء بمهماتها.
صحيح أنّ واشنطن أبدت قلقاً عميقاً من «دولة داعش» وطرحها البدء بتطبيق مبدأ الخلافة الاسلامية مسقطة حدود سايكس- بيكو، إلّا أنّ الصحيح أيضاً أنها تريد ضمناً أن تكوي نار «داعش» الطموح والمصالح الايرانية لكي ترغم طهران على المشاركة في العراق من نافذة تغيير المالكي، اضافة الى تدوير بعض الزوايا «العنيدة» في الاتفاق الجاري صَوغه في اطار التسوية الاميركية – الايرانية.
الهمس الدائر في الاوساط الديبلوماسية يشير الى بداية توافق اميركي – ايراني على نقاط عدة تشكل قاعدة متينة لاتفاق كامل قد يحصل خلال الاسابيع المقبلة:
– نقطة التوافق الاولى تقضي بمنع تقسيم العراق، ذلك أنّ إيران «القلقة» من «داعش» تبدو قلقة أكثر من دولة كردية ستحظى بمقومات القوة، ما يؤذي مصالح طهران الاستراتيجية.
– النقطة الثانية تتعلق بإرسال ايران طائرات حربية الى العراق كانت نقلت ايام صدام حسين، على ان يتولى طيّارون روس قيادتها في انتظار انتهاء تدريب الجيش العراقي على استعمالها.
– النقطة الثالثة تشير الى غَضّ النظر عن توَلّي الطيران الحربي السوري ضرب مواقع متطرفة قريبة من حدوده.
وفي موازاة ذلك، تحاول طهران استدراج تدخّل طائرات «الدرونز» الاميركية من دون التورّط في تنازلات سياسية مسبقة. فأوحَت للمالكي بسَحب الجيش العراقي عن الحدود مع السعودية، ما يعني فتح الطريق امام «داعش» لتهديد السعودية، ما سيُلزم واشنطن التدخل السريع لضرب المتطرفين.
لكنّ الرد جاء بتفاهم دول الخليج على ارسال قواتها المسلحة لتأمين الحدود، ما جعل بغداد تتراجع عن قرارها. لكنّ «القاعدة» تحرّكت مرة عبر الحدود اليمنية، ومرة أخرى في الداخل السعودي.
صحيح أنّ واشنطن ترفض قطعاً أيّ اهتزاز كبير في استقرار السعودية، لكنها قد لا تعارض حصول خروق أمنية تساعدها في لعبة «عَض الاصابع» هنا ايضاً. فالكلام الاميركي عن مستقبل سوريا بدأ يصبح أوضح لجهة ضرورة التعاون مع النظام الحالي، والذي سيكون العمود الفقري للسلطة الجديدة لسوريا مع بعض التعديلات لجهة توزيع السلطة، بمعنى بقاء الاسد ونظامه مع إعطاء صلاحيات اضافية لرئيس الحكومة على اساس «طائف سوري».
بالتأكيد، قد تجد السعودية، التي ترفض بقاء الاسد، نفسها مرغمة على القبول بهذا الواقع انطلاقاً من باب الإفادة من النظام السوري في مقاتلة المجموعات المتطرفة، التي تطرق باب الاستقرار السعودي. فما هو مرفوض يصبح مرغوباً في ظل الخطر الامني، وتأتي خدمات سلاح الجو السوري في اطار تقديم العروض. والسقف السعودي العالي تجاه الحلول في العراق سيُصبح اكثر مرونة على وقع اهتزاز الامن الداخلي، ويفتح الباب امام رابح وحيد في العراق هو واشنطن.
لكنّ الاهم أنّ «داعش» التي تعرف جيداً حقيقة النزاع الدائر حولها ورغبة كل طرف باستخدامها في وجه الاخر قبل حلول أوان ضربها والقضاء عليها، تحاول خلق امر واقع اوسع يسمح لها بفرض نفسها بشكل يصعب تجاوزه او ضربه لاحقاً. لذلك اتّجهت ناحية هدفين:
– الاول هو الاردن، إلّا أنّ الدعم الاميركي السريع وتكاتف البدو والقبائل حول العرش يجعل المهمة صعبة الى حد ما، من دون أن يعني ذلك أنّ «داعش» ستتوقف عن السعي إلى هزّ الاستقرار الاردني.
– والثاني في اتجاه لبنان، على أساس أنه الساحة الأسهل لضربها وسط الانقسام الحاد بين اللبنانيين ووجود بؤر تساعد، إن في المخيمات الفلسطينية أو بين المجموعات السورية.
نجاح مجموعات «داعش» في الوصول الى هذا الواقع، سيصعّب على واشنطن استعادة زمام المبادرة العسكرية عندما يحين التوقيت السياسي، خصوصاً بعد ربط نفوذ «داعش» من العراق فسوريا، وصولاً الى لبنان، أي بمنطقة لديها نفطها ومنفذها البحري ودعمها المحلي.
لا بل إنّ «داعش» تُخطّط لنشر الفوضى في لبنان عبر اغتيال موجع يفرط السلطة، في ظل الشغور الرئاسي.