الوهم الأكبر الذي يقع فيه العقل الرسمي في لبنان هو الظنّ أنه يمكن القبض على «داعش» ومؤامراتها دفعة واحدة، في شارع واحد هو الحمرا، وفندق واحد هو «نابوليون»، وفي ليلة واحدة… وبعد إعتقال «رأس مدبِّر»، وبناءً على معلوماتٍ أميركيةٍ طارئة!
ثمّة سقف من الواقعية يقتضي أن يلتزمه اللبنانيون في ملف «داعش» وأخواتها. فمن الخطأ القول إنّ الموجة الجهادية تجتاح الحالة السنّية في لبنان على الطريقة العراقية، أو حتى السورية الأقل حدة.
ولكن من الخطأ أيضاً الإعتقاد بأنّ «داعش» ليست في لبنان سوى بضعة أنفار من الجهاديين العرب «المستوردين»، وأنّ حضورهم مضبوط ومهماتهم محصورة في التاريخ والجغرافيا.
في العراق، باتت «داعش» عنواناً سياسياً كبيراً للنقمة السنّية على الإيرانية السياسية. وفي الحراك «الداعشي» العراقي تنخرط – في شكل خبيث أو بريء – مجموعات وتنظيمات سنّية عراقية ليست بالضرورة إسلامية، أبرزها البعثية الصَدّامية.
وفي سوريا، أدى التواطؤ الأميركي الضمني لعدم سقوط النظام إلى تضعضع المعارضة الليبرالية. واستخدَم النظام عملاءه الذين يخرقون الجهادية التكفيرية أو يقودون بعضها، للإمعان في شقّ المعارضة وتصويرها إرهابية يقتضي ضربها. ونتيجةً لذلك، إزداد تعاطف المزاج السنّي السوري مع التيارات الإسلامية عمّا كان عليه قبل 2010.
أمّا في لبنان، فحتى الآن، لا حضور حقيقياً للتيارات الجهادية التكفيرية في الوسط السنّي. ولكنّ غالبية السنّة اللبنانيين ناقمة على «حزب الله» ومستاءة من التعاطف الأمني والسياسي الرسمي معه. وهذا العامل يُشجع التشدّد والتطرف.
ولو جرت إنتخاباتٌ نيابية حرّة ونزيهة في الأعوام الأخيرة، ووفق قانون عادل تمثيلياً، لوَصَل بعض الإسلاميين أو الجهاديين إلى المجلس -وقد وصل بعضهم- لكنّ الغالبية السنّية في لبنان تبقى في خانة الإعتدال.
لكنّ هذه الصورة ليست ثابتة ونهائية. وثمّة مَن يعتقد أنّ تعطيل الإنتخابات النيابية في لبنان، منذ إندلاع النزاع في سوريا، أخفَى الحجم الحقيقي للإسلاميين في البيئة السنّية، علماً أنّ الإسلاميين الشيعة (حزب الله) يتحكّمون بقانون الإنتخاب ونتائجه.
فالتأثير السوري – العراقي على الواقع اللبناني يتزايد. وإستتباعاً لإصرار «الشيعية الجهادية» اللبنانية على التورُّط عملانياً في سوريا، وربما رمزياً أو إستشارياً في العراق، فإنّ السنّية الجهادية قد تنمو. ويدرك الجميع إجمالاً، من دون الحاجة إلى إنتخابات أو إستطلاعات، أنّ التيارات الإسلامية السلفية تحسَّنت شعبيتها في البيئات السنّية، وفي نسب متفاوتة تبعاً للمناطق. ويجدر التأمّل في مشاهد طرابلس وعرسال وعبرا والمخيمات وبعض العاصمة. وهذا العامل كان من دوافع «حزب الله» إلى الإستنجاد بـ»المستقبل» كضمانة للإعتدال.
ومن المناسب أن يحدِّد وزير الداخلية نهاد المشنوق، في إجتماع السراي، ثلاث بؤر يمكن لـ»داعش» وأخواتها أن تنطلق منها:
1- المخيمات الفلسطينية، ولا سيما عين الحلوة حيث تشير المعلومات إلى تدفّق العشرات من العرب المنتمين إلى جماعات إرهابية. ويتواصل المخيم مع عبرا الخارجة من أحداث دموية خطرة أدت إلى إنهاء حالة الشيخ أحمد الأسير على الأرض، ولكن لا دلائل على إنهاء تفاعلاتها العميقة.
2- عرسال وجرودها ومشاريع القاع. فهذه المنطقة هي معبر الجهاديين إلى لبنان. ويزيدها إحتقاناً وجود نحو 200 ألف سوري. وتزداد مخيمات اللاجئين السوريين وتجمعاتهم إنتفاخاً إلى حدِّ الإنفجار، وسط ضعف شديد في قدرة الدولة على الرصد والمتابعة والتنفيذ.
3- سجن رومية الذي يمكن تسميته «مخيم رومية». وقد تحدّث المشنوق قبل أيام عن إحتوائه «قاعدة» للإرهابيين.
لا يمكن التصدي لهذه البؤر، ولا يجدي، إذا بقيَ لبنان الرسمي مباركاً ومشاركاً في الجهادية الشيعية المتورّطة في سوريا. ويكون الأمن في التناغم الطبيعي للأجهزة على الطريقة الحاصلة اليوم بين الأمن العام والمعلومات ومخابرات الجيش، لا على الطريقة التي تتم فيها الحملة، بلا أساس منطقي، على جهاز أمن الدولة، بما يفقده هيبته وقدراته. وفي أيّ حال، الأمن في لبنان ليس عنوانه «نابوليون… في ليلة القبض على داعش». إنه أعمق من ذلك بكثير!