<p> ما يميّز الدولة الحديثة عن غيرها هو المواطنة. في الدولة الحديثة يمارس الإنسان فرديته؛ يكون حراً أو يحمل إمكانية أن يكون حراً؛ يساهم في صنع قرارات الدولة، أو يتوهم ذلك. المهم أن لا وسيط كالطائفة والإثنية أو القومية المحلية بينه وبين الدولة. هو كفرد في مواجهة مع الدولة؛ هو يصنعها أو هي تصنعه؛ هو يقرر إرادتها أو هي تقرر إرادته، لكنه لا يمر إلى الدولة من خلال وسيط.<br /> تتشكل الدولة الحديثة من أفراد نبذوا انتماءاتهم الأخرى ما عدا الانتماء للدولة، أو بالأحرى أعطوا انتماءهم للدولة أولوية على كل الانتماءات الأخرى (الطائفية والإثنية). الأهم من نبذ الانتماءات الأخرى هو أن يكون للفرد أولوية مطلقة لانتمائه إلى الدولة. لا يمكن للمرء أن يكون مواطناً وطائفياً. يمكن أن يجمع الاثنين مع أولوية مطلقة للدولة.<br /> الدولة التي تتشكل من طوائف (أو ما يسمى مكونات في العراق وغيرها) لا تتشكل من أفراد. تعرف هذه الدولة الأفراد من خلال طوائفهم، ويعرف الأفراد الدولة من خلال طوائفهم. في كل من الحالتين تصادر الطائفة قرارات الأفراد وتصادر الدولة قرارات الطوائف (إذ تعرف الطوائف أن وجودها مرهون بسلطة الدولة، وأن تسلطها على الأفراد مرهون بقوة الدولة وقواتها). دولة الرعايا هي دولة الطوائف. دولة الأفراد هي دولة المواطن.<br /> ليس بالضرورة أن تكون الدولة الحديثة ديموقراطية أو استبدادية، المهم أن فيها يكتسب الإنسان إنسانيته، يكتسب الاعتقاد أو التوهم أنه هو الذي يصنع الدستور والقوانين والمراسيم ومختلف قرارات الدولة. الدولة الحديثة تحمل إمكانية الحرية. ولا يمارس المرء حريته إلا في إطار الدولة وكل نضال من أجل الحرية هو نضال من أجل الفردية، من أجل إنسانية الإنسان. ولا تتحقق الحرية فعلاً إلا بأن تؤخذ. لا تعطى بل تؤخذ.<br /> لا ننسى أن الدولة، كل دولة هي دستور وقوانين ومؤسسات قائمة عليها؛ هي مجموعة قيود أو ما يسمى ضوابط على الحرية. الدولة بالضرورة ظالمة. المهم أن ما فيها من دستور وقوانين يضمن أن لا تكون القرارات عشوائية. حتى المستبد في الدولة الحديثة يضطر إلى التقيد بالقوانين، أو التظاهر بذلك. يحتالون عليها؟ هذا ممكن. نظام الحيل كان معروفاً في كل الأديان من أجل ارتكاب الحرام والظهور بمظهر الحلال. تقترب الدولة الحديثة من سابقاتها بالعشوائية. وهذا خطر يهدد لبنان، بلد من دون رئيس للجمهورية، ومع مجلس نواب غير ممارس، ومجلس وزراء أشبه ما يمارسه هو عمل السنديك؛ هو بلد تتحكم به العشوائية والفوضى، بل يشبه نظام الغابة حيث الغلبة للأقوى، وحيث القوى وحدها تصنع الحق، وتضيّع الحقوق.<br /> لأسباب عديدة يتحكم بلبنان الوعي الطائفي. للطائفة أولوية على الدولة. لذلك لا يستطيعون العبور إليها. ولذلك تتحكم العشوائية ويعجزون عن الإعمار والبناء؛ بل يخربون ويهدمون ما عمّر وشيّد. في النظام الطائفي الأولوية للحقيقة الدينية، للمتسامي التابع خارج الإنسان. الفرد لا قيمة له. في الصراع الطبقي، يدافع الناس عن مصالحهم، عن ذواتهم، عما يعتقدون أنه حق لهم. وذلك ينطبق على مختلف الطبقات حتى التي تمارس الاستغلال بلا مبرر.<br /> لا تبدأ الدولة بعقد اجتماعي، بل بالغلبة. لا يجتمع الناس ويقررون إنشاء دولة. بل تنشأ الدول بفعل الصدف التاريخية التي يساهم فيها أناس خارجيون كالاستعمار أو غيره. الدولة معطى. تصير دولة حديثة عندما تنتقل بنضالات أبنائها إلى نوع من العقد الاجتماعي؛ وهذا لا يحدث إلا عندما يعم الوعي بضرورة الدولة، وبضرورة المشاركة فيها، وأن تكون المشاركة باسم الأفراد لا الطوائف؛ أن يساهم الأفراد باتخاذ القرارات وذلك بغض النظر عن قرارات طوائفهم. وبذلك تتحول السلطة إلى دولة أفراد ومواطنين لا دولة رعايا؛ يخرج الأفراد من طوائفهم وإن مارسوا الطقوس الدينية. بذلك تتلاشى الطوائف من السياسة وتتحول إلى نوع من الفولكلور الشعبي. تخترع الطوائف أسباباً لوجودها وكلها تتناقض مع الدولة الحديثة ومع فردية الإنسان، بل ومع إنسانية الفرد.<br /> دولة الطوائف يسهل التلاعب بها. يتلاعب الخارج بها بالعلاقات مع طوائفها. هي بالأساس مكرسة لطوائف تدعي أن مرجعيتها في الخارج السماوي، لا فرق كبيراً بين الخارج السماوي والخارج الأرضي. كل منهما تقرره قوى على الأرض وتفترض بهما ما ليس منهما. الإمبريالية تتدخل لصالح الحقوق الإنسانية أو الطائفية، والسماء تتدخل لصالح الحق والحقيقة والحلال والمقدس، وفي الحالتين تبرير لأن لا يكون لأهل البلد قرارهم النابع منهم. بالمواطنة يصير القرار داخلياً. دولة المواطنين، مهما كانت صغيرة، لا يمكن الاستيلاء عليها من الخارج.<br /> ليس المطلوب بناء المواطن، بل بناء دولة المواطن. توجد الدولة من أجل المواطن لا العكس. المهم أن يعرف أهل الدولة ما هو ومن هو المواطن.</p>