IMLebanon

نحو سيناريو حرب عالمية ثالثة

 

 

اعتقد العالم ان الكوارث التي حلت بالانسانية من جراء الحرب العالمية الأولى كانت كافية لتجنب الوقوع في حرب عالمية ثانية. ولكن تلك الحرب انفجرت قبل أن تجف دماء أكثر من عشرة ملايين ضحية سقطت في الحرب الأولى. لقد كانت سنوات ما قبل تلك الحرب «العصر الذهبي» لأوروبا. ذلك انه منذ معركة واترلو (التي انتهت بهزيمة نابليون بونابرت) عرفت القارة استقرارا سياسياً وازدهاراً اقتصادياً. وشهدت قفزة كبيرة في التقدم العلمي والتقني شملت الطب والمواصلات والاتصالات. لم يكن أحد من أهل السياسة يفكر بالحرب. ولكن كان هناك آخرون يعملون عليها ويعدون الخطط لها بمعزل عن أهل السياسة. ففي ذلك الوقت ابتدع تعبير «الحرب الوقائية»، فكانت الحرب التي أجهزت على السلام.

وتقول المؤرخة البريطانية مارغريت ماكميلان في كتابها «الطريق الى 1914» ان الحرب كانت ثمرة اختيارات افراد، وان الذين تولوا قيادة أوروبا في ذلك الوقت اتخذوا قرارات خاطئة، من قيصر روسيا الى قيصر ألمانيا الذي كان يصف البريطانيين بأنهم «مجانين.. مجانين مثل أرانب آذار مارس».

وتؤكد المؤرخة ماكميلان «ان أحداً من قادة أوروبا لم يكن يجرؤ أو يحاول أن يتصدى لعملية الاستعدادات العسكرية التي كان يقوم بها جنرالات يتطلعون الى الشهرة. حتى ان هؤلاء الجنرالات لم يكونوا يستشيرون رؤساءهم المدنيين أو يطلعونهم على الحشد العسكري الذي كانوا يعدونه».

واليوم يسود الاعتقاد بأن كوارث الحرب العالمية الثانية، والتي توجت بكارثة القنبلتين النوويتين الأميركيتين على هيروشيما وناكازاكي في اليابان، تكفي لتجنب الانجرار الى حرب عالمية ثالثة، خاصة وان السلاح النووي متوفر بكثرة لدى العديد من الدول وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين والهند والباكستان واسرائيل. كما ان هذه الدول تملك شبكات من الصواريخ والطائرات والغواصات القادرة على حمل قنابلها النووية الى أي مكان من العالم. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه عشية الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى هو: هل تعلّم العالم من الدروس السابقة فعلاً؟

ان قراءة سياسية للمسرح العالمي تشير الى المقاربات التالية:

أولاً: تبدو الصين اليوم في الموقع الذي كانت عليه ألمانيا. كانت ألمانيا عشية الحرب العالمية الأولى قوة اقتصادية كبيرة. وكانت تبني ترسانة عسكرية ضخمة. وكانت تتطلع الى السيطرة على أوروبا. واليوم الصين تحولت فعلاً الى قوة اقتصادية كبيرة، وبنت فعلاً ترسانة عسكرية ضخمة. وهي تتطلع الى السيطرة على آسيا.

وكما حركت ألمانيا العواطف والمشاعر القومية لتكون حافزاً لنواياها السياسية، كذلك تفعل الصين اليوم من خلال تجييش المشاعر القومية في مواجهة اليابان خصوصاً.

ثانياً: وتبدو الولايات التحدة اليوم في الموقع الذي كانت عليه بريطانيا. فالعلاقات التجارية بين ألمانيا وبريطانيا عشية الحرب العالمية الأولى تشبه العلاقات التجارية القائمة اليوم بين الصين والولايات المتحدة، من حيث حجمها وأهميتها. واذا كانت الولايات المتحدة أقوى عسكرياً مما كانت عليه بريطانيا، فان الصين اليوم هي أقوى مما كانت عليه ألمانيا أيضاً.

ثالثاً: وتبدو اليابان اليوم في الموقع الذي كانت عليه فرنسا. ترفع شعارات قومية حارة الا انها تعتمد أساساً وفي الدرجة الأولى على حلفائها. كانت فرنسا متحالفة مع بريطانيا. كما تتحالف اليوم اليابان مع الولايات المتحدة. وكانت فرنسا على عداء محكم مع ألمانيا كما هو اليوم واقع علاقات اليابان مع الصين.

ولعل من أبرز معالم التحالف الفرنسي البريطاني معركة نهو السوم التي خاضتها الدولتان ضد ألمانيا في الأول من شهر تموز يوليو 1916.

ففي الساعات الأولى من المعركة خسرت بريطانيا وحدها 20 ألف قتيل. وخسرت فرنسا عدداً مماثلاً تقريباً. وتحولت المعركة الى حرب استنزاف لم تنته الا في شهر تشرين الثاني نوفمبر من ذلك العام بعد أن حصدت نصف مليون قتيل وجريح فرنسي وبريطاني، وعدداً أكبر في الجانب الألماني. وقد خلد وقائع تلك المعركة الطاحنة الشاعر البريطاني «آلان سيجر» في قصيدة مشهورة عنوانها: «موعد مع الموت».

لم يكن هدف تلك المعركة احتلال الأرض. وحتى اذا وقعت معركة مماثلة اليوم فلن يكون الهدف توسعياً. ولكن الهدف كان ولا يزال اخضاع العدو. وهذا ما تتطلع اليه الصين اليوم. وهو ما تطلعت اليه ألمانيا في عام 1916. وهو أيضاً ما تتطلع اليه الولايات المتحدة اليوم، وما كانت تتطلع اليه بريطانيا قبل مائة عام.

لقد استبعد المفكرون السياسيون وقوع الحرب العالمية الأولى. وبنوا استنتاجاتهم على أساس الازدهار الاقتصادي الذي كان يشمل الدول الأوروبية، والذي كان قائماً على التبادل التجاري الواسع بين هذه الدول وخاصة بين ألمانيا وبريطانيا. في ذلك الوقت انتشرت النظرية التي تقول ان الاقتصاد الناجح لا يمكن أن يلقي بنفسه في تهلكة الحرب المدمرة. ويتردد هذا المنطق التحليلي اليوم ايضاً من خلال شبكة العلاقات الاقتصادية الواسعة سواء بين الولايات المتحدة والصين، أو بين اليابان والولايات المتحدة، أو بين مجموعة الدول الأوروبية، وبينها وبين الصين والولايات المتحدة واليابان.

ولكن هذا المنطق الذي لم يثبت صحته قبل مائة عام بدليل انفجار الحرب العالمية الأولى، هل يثبت صحته اليوم؟

لقد أدى حادث عابر في مدينة سيراييفو (عاصمة البوسنة اليوم) الى انفجار حرب أدت الى مقتل الملايين التسعة من البشر. فأي حادث «عابر» يمكن أن يشكل اليوم خطراً على السلام العالمي؟.

لقد تمكنت أوروبا بمعجزة من الانكفاء عن الحرب في عام 1912-1913 بسبب أزمة البلقان. غير ان هذه المنطقة بالذات التي انطلقت منها الرصاصة الأولى في الحرب العالمية الأولى، لا تزال حتى اليوم ورغم تداعيات تمزق الاتحاد اليوغسلافي وما رافقها من حروب اهلية دينية وعنصرية، تشكل قنبلة موقوتة تهدد الأمن الأوروبي، وتالياً الأمن العالمي.

وفي الواقع هناك قنابل موقوتة عديدة أخرى قابلة للانفجار في أي وقت:

أولاً: كوريا الشمالية التي تملك صواريخ بعيدة المدة وقنابل نووية هي أبعد ما تكون عن الاستقرار. فماذا اذا انفجرت من الداخل؟ ماذا يكون مصير هذه الأسلحة؟ والى أي أيدي سوف تنتقل؟ ووفق أي معادلات؟ وماذا يكون مصير كوريا الجنوبية التي لا تزال القوات الأميركية متمركزة فيها منذ الحرب الكورية في عام 1950؟

ثانياً: الهند التي تملك ايضاً قنابل نووية وصواريخ بعيدة المدى، سيؤول الحكم فيها من حزب المؤتمر المعتدل الذي أسسه نهرو، الى الحزب الهندوسي المتطرف بزعامة ناريندرا مودي المتهم بارتكاب مجازر ضد المسلمين. فكيف ستكون علاقاته مع الباكستان التي تملك هي الأخرى ترسانة نووية صاروخية مماثلة؟ ان قضية كشمير لا تزال تشكل نقطة تماس بين الهند والباكستان تماماً كما كانت قضية الالزاس واللورين بين فرنسا والمانيا.

ثالثاً: تصر الصين على بسط سيادتها على الجزر الصخرية في بحر الصين والتي تعتبرها اليابان جزءاً من أرضها الوطنية. وتطالب بالسيادة على هذه الجزر دول عديدة اخرى في شرق آسيا (الفلبين أندونيسيا ماليزيا بروناي كوريا) وكل هذه الدول وخاصة الصين واليابان متعطشة الى مصادر الطاقة (النفط والغاز) والتي ثبت من خلال المسح السيسموغرافي توافرها في المياه الاقليمية للجزر الصخرية غير المأهولة -.

في الحرب العالمية الأولى نقل عن الرئيس الفرنسي كليمنصو قوله: «ان نقطة من النفط تعادل نقطة من دم الجندي الفرنسي». فلا حرب من دون توفر الطاقة، ولذلك فان الحرب قد تنشب من أجل امتلاك مصادر الطاقة والسيطرة عليها.

اضافة الى ذلك كله هناك ألغام عديدة اخرى مزروعة في أعالي البحار يمكن أن تصطدم بقضية ما لتفجر ما لا يريد أحد أن يفجره!

من هذه الألغام الخلاف على استثمار الثروات الطبيعية في القطب الشمالي ومن أهمها النفط.. وطرق الملاحة البحرية عبر القارات. ومنها أيضاً تضارب طموحات الدول (التي انتقلت من طور النمو الى طور القوى الاقتصادية الكبرى مثل الهند والصين والبرازيل واندونيسيا) مع الدول الكبرى التي تستقطب السياسة العالمية منذ انتهاء الحرب الباردة وقبلها.

ومنها أيضاً اتساع مساحة الارهاب في العالم. فبدلاً من الاتفاق على استراتيجية دولية لمكافحته، يخضع الارهاب الى توظيف استثماري في اطار لعبة الأمم. لقد حدث ذلك من قبل في أفغانستان وفي العديد من دول أميركا الجنوبية والوسطى، وهو يحدث اليوم في افريقيا والشرق الأوسط!!.

ومنها كذلك التغيير المناخي وما يترتب عليه من اثار اقتصادية واجتماعية تحمل الملايين من البشر على الهجرة الى دول ليست مستعدة لاستقبالهم أو ليست قادرة على استيعابهم.

لقد أدت الحرب العالمية الأولى الى وقوع ثلاث كوارث سياسية دفعت الانسانية ثمنها غالياً فيما بعد، ولا تزال.

الكارثة الأولى هي قيام الاتحاد السوفياتي بنظامه الشيوعي، ولم ينته هذا النظام الا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.. والحرب الباردة التي اعقبتها، حيث استعادت أوروبا الشرقية حريتها، وتفكك الاتحاد الى عدة دول.

والكارثة الثانية هي قيام النازية وبروز هتلر كرمز لها لينتقم لألمانيا من المذلة التي ألحقت بها في نهاية الحرب العالمية الأولى في مؤتمر فرساي عام 1919. ولم تنته النازية الا بعد الحرب العالمية الثانية التي ادت الى تدمير المانيا والى فرض حظر على تسلحها.

أما الكارثة الثالثة فكان العالم العربي مسرحاً لها. ولا يزال حتى اليوم ضحية لها. وهي تتمثل في منع قيام الدولة العربية الواحدة، وفي التقاسم البريطاني الفرنسي (سايكس بيكو) الهيمنة على هذا العالم بعد رسم حدود لدوله في اطار مصالح الطرفين المتحالفين! وبدلاً من انهاء مفاعيل تلك الجريمة والقضاء عليها، فان الحرب العالمية الثانية لم تغير في نتائجها من هذا الواقع التقسيمي. فالعالم العربي يواجه اليوم خطراً أشد هولاً وهو تقسيم المقسم من دوله وتجزئة المجزأ من شعوبه. وفتح العالم العربي عينيه على كيان جديد غُرس في قلبه تعويضاً لليهود عن المآسي التي لحقت بهم في أوروبا.. فقد أعطى من لا يملك الى من لا يستحق، وذلك على أساس القاعدة العامة التي تقول ان المال السائب يعلم الناس الحرام!!