بات السجال على النصاب الدستوري لانتخاب الرئيس ملازماً لكل جلسة لن تنعقد. بعد الفراغ المتوقع منذ 25 أيار، يصبح عديم الجدوى وعلى هامش الاستحقاق. يخرج المرشحون المتداولون ـــ وبينهم مَن بدأ يتحضّر ـ من السباق بغية ملاقاة مرحلة مختلفة لمرشح مختلف بالنصاب نفسه
عاد الجدل وتشعّب الاجتهادات حيال النصاب الدستوري لانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية يتصدّر الاستحقاق مجدداً، كي يُعزى اليه، والى قرار هيئة مكتب مجلس النواب في 27 آذار، تعذر انتخاب الرئيس والاقتراب يوماً بعد آخر من الفراغ في رئاسة الدولة. تحوط بالجدل المستجد هذا، المتنامي منذ الجلسة الثالثة للمجلس في 7 ايار، بضع ملاحظات منها:
1 ـ رغم انقضاء شهر ونصف شهر على قرار هيئة مكتب المجلس، فان اياً من اعضائها الخمسة المنتمين الى قوى 14 آذار ــــ ويشكلون الغالبية المرجحة في مقابل عضوين آخرين ينتميان الى قوى 8 آذار احدهما رئيس المجلس نبيه بري ــــ لم يتنصل من قرار كان قد اكد بالاجماع نصاب الثلثين لالتئام البرلمان في كل دورات الاقتراع.
لم يكن الموقف كذلك في ما مضى عندما اختلفت الغالبية تلك مع بري على جدول اعمال جلسات الاشتراع، وإن اتفقت معه بداية على دستورية انعقاد المجلس في ظل حكومة مستقيلة. ثم عممت الغالبية نفسها موقف التحفظ عن جدول الاعمال على الحضور، وقاطعت مواعيد متكررة لبري الى جلسات اشتراعية على اثر استقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بذريعة ان ليس للبرلمان ان يشترع، فعطلت دوره. حافظت هيئة المكتب في قرار 27 آذار على ثباتها وكرّست القاعدة مجدداً.
2 ـ خلافاً لما درج عليه في الاستحقاقات الرئاسية المتعاقبة، اختبر مجلس النواب للمرة الاولى عقد جلسة اولى لانتخاب الرئيس من غير ان يتمكن فعلاً من انتخابه. مذ اخفقت جلسة 23 نيسان باكتفائها باجراء دورة تصويت اول لم يحز فيه اي من المرشحين المعلنين النائب هنري حلو ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع الثلثين وارفضاض الجلسة على الاثر بعد افقاد النصاب القانوني، اتسعت دائرة التكهن في مصير الاستحقاق. الا ان احدا لم يتحفظ عن نصاب الثلثين للالتئام في كل الدورات، ولا عن مناورة الاوراق البيض، ولا كذلك عن رفع الجلسة وتحديد موعد آخر لها.
اعتادت الاستحقاقات اعلان انتخاب الرئيس في جلسة واحدة، في الدورة الاولى تارة وفي الدورة الثانية طورا ما خلا انتخابات 1970 التي حملت رئيس المجلس صبري حمادة على ابطال اقتراع الدورة الثانية بعدما اكتشف ان اوراق الاقتراع تزيد عن عدد المقترعين، فانتقل الى دورة ثالثة. الا ان اياً من الرؤساء اللبنانيين لم يحتج اكثر من دورتي اقتراع، واكثر من جلسة واحدة. لكن بالتأكيد لم يسبق ان اضطر المجلس الى عقد جلسة ثانية بسبب اخفاقه في الانتخاب في الدورة الاولى ورفع الجلسة.
منذ الجلسة الثانية في الاستحقاق الحالي 30 نيسان، كررت نتائجها الجلسة الثالثة وربما الرابعة الخميس المقبل والخامسة او اكثر حتى، تيقنت الكتل جميعا من ان نصاب الثلثين لن يكتمل ابدا ما لم يقترن بتسوية بين الاطراف المعنيين.
لم يكن في الامكان ملاحظة الفرق بين جلسة اولى انعقدت وجلسات تالية تعذر التئامها، الا بعدما انتقل الاستحقاق من دورة اقتراع اولى الى دورة اقتراع ثانية. ما بين عامي 1926 و2008، على مرّ تاريخ الاستحقاقات الرئاسية، كان ثلثا النواب على الاقل داخل القاعة، واحيانا كل اعضاء المجلس، ابان الانتقال من دورة الى اخرى بفاصل زمني قصير لا يتعدى دقائق. في استحقاق 2014 اضحى التئام المجلس في جلسة ثانية مطابقا لالتئامه في الجلسة الاولى، وهو فحوى قرار هيئة مكتب المجلس في 27 آذار، الا انه يدخل ايضا في صلب تقاليد الاستحقاقات المتعاقبة طوال 88 عاما من عمر الجمهورية: الثلثان نصاب الحضور في كل الجلسات وكل الدورات.
3 ـ لم يمسِ نصاب الثلثين مشكلة جدية ومقلقة سوى في استحقاق 2007 الذي افضى الى شغور في الرئاسة ستة اشهر. نجمت المشكلة تلك عن الانقسام الحاد، المذهبي في صلبه، بين فريقي 8 آذار ورأس حربتها الثنائي الشيعي وقوى 14 آذار ورأس حربتها تيار المستقبل. ومع ان ظاهر الاستحقاق اليوم ماروني من خلال تنافس مرشحين اثنين او اكثر على الوصول الى الرئاسة، كمنت قوة النصاب في كل من فريقي المذهبين الآخرين. من دون كليهما لا نصاب مكتملا، ولا انتخابا للرئيس.
ليس ترشيح جعجع الا صورة مكملة لخيارات قوى 14 آذار، وهي رفضها استمرار سلاح حزب الله يتلاعب بتوازن القوى الداخلية والسيطرة على معادلة السلطة والشارع في البلاد. وليس الترشيح غير المعلن للرئيس ميشال عون الا صورة مكملة بدوره لخيارات قوى 8 آذار بتمسكها بسلاح المقاومة. يختلف الطرفان ايضا على ملفين لا يقلان عبئا هما الموقف من النظام السوري والمحكمة الدولية، وكلاهما مكمّل ايضا للملفات الداخلية. على نحو مباشر يتجاوز ترشيح عون وجعجع الى المشروعين المتناقضين، لا يتحدث حزب الله الا عن رئيس تطمئن اليه المقاومة، ولا يسلم تيار المستقبل سوى برئيس يعيد الى الدولة سيادتها وقرارها وحصر القدرات بها وحدها. في ظلّ تمسك هذين الفريقين بشعاراتهما المحلية والاقليمية لا غرو في ان يستمر الزعيمان المارونيان مرشحين. الا ان ايا منهما لن ينتخب. بذلك يصبح نصاب الثلثين لانعقاد المجلس احد ادوات النزاع السني ــــ الشيعي على صورة الدولة وخياراتها التي يريدان في المرحلة المقبلة، لا على الصورة المغالية والمتباهية التي يظهر بها هذا المرشح او ذاك.
بل الواقع ان هذين الفريقين، عندما ينزلان عن اكتافهما ترشيح عون وجعجع، يذهبان الى رئيس يتوافقان عليه من غير ان يتخليا عن الخيارات المتناقضة تلك. اذ ذاك يكونان يسيران حقا الى انتخابات يمثل الرئيس التوافقي تقاطعا موثوقا به لمصالحهما ومراعاتها وادارة خلافهما.
بل تبدو المعادلة المبسطة ــــ في ظل المناداة بنصاب +1 لانعقاد المجلس في كل جلسة تالية بعد الجلسة الاولى ــــ ان احدا من قوى 8 و14 آذار لا يملك مع حليفه المسيحي، في الحسابين المذهبي والعددي، ما يتيح له اجتماع البرلمان وانتخاب مرشحه بالاكثرية المطلقة. تلك حال قوى 8 آذار بنوابها الـ57 بمن فيهم الحليف المسيحي (تكتل التغيير والاصلاح)، وقوى 14 آذار بنوابها الـ54 بمن فيهم حلفاؤها المسيحيون (احزاب الكتائب والوطنيين الاحرار والقوات اللبنانية والمستقلون).