ينظر الموارنة الى المنطقة فيتحسسون أطفالهم. تبخّر مسيحيو العراق. ومسيحيو سورية على الطريق. عدد الكنائس المحترقة في مصر كان قياسياً. سرّع «الربيع العربي» خريف الأقليات. يقلّب الماروني الصحيفة ويخاف. أعلام «القاعدة» ترفرف في اليمن والأنبار وسورية وليبيا والصومال. و «داعش» على مرمى حجر. كلما تذكّر رسالتها للمسيحيين المقيمين تحت سلطتها وحديث الجزية انقبضت أساريره. يُغمض عينيه. سقوط العروبة الحضارية مأساة. هل كان الخوف من الغرق في البحر الشاسع ما دفع ميشال عفلق إلى إطلاق فكرة «البعث»؟ هل كان الخوف نفسه وراء محاولة أنطون سعادة اختراع القلعة السورية لاعتراض الرياح؟ لا الأسئلة تفيد ولا الإجابات سهلة.
هذه أصعب الأيام. يقول ويأكله القلق. سقط التعايش في الإقليم. استؤنفت الحروب القديمة بعدما كمِنَتْ قروناً تحت رمادها. أسقطت الرياح المذهبية الحدود الدولية المصطنعة. جيوشٌ صغيرة متحركة ومقاتلون جوّالون.
كانت العقود الأخيرة قاسية على الموارنة. قاتلوا وقَتَلوا وقُتِلوا. اصطدموا بالسلاح الفلسطيني واستعان بعضهم بـ «الشيطان». تلطخت صورتهم وتزايدت عزلتهم. وحين تقدّمت سورية لإنقاذهم طالبت بثمن باهظ لضمان سلامتهم. وحين اصطدموا بها قلّمت أظافرهم وأصابعهم. اخترعت لهم زعماء ونصّبت لهم رؤساء.
وطأة سورية القوية مشكلة. وطأة سورية المفككة كارثة. ينظر الموارنة بقلق. سورية مهددة بالتحول إلى فيتنام سنّية – شيعية. «حزب الله» يستقبل النعوش العائدة من هناك. وعدد النازحين السوريين إلى لبنان يقترب من ثلث عدد سكانه. مأساة إنسانيّة مروّعة. ومخاوف أمنية وديموغرافية وملامح كارثة اقتصادية. ينظر الموارنة إلى لبنان فيشعرون بالقلق. ما جدوى التاريخ حين تخسر الجغرافيا؟ حروبهم مع الآخرين أتعبتهم. وحروبهم الداخلية أطاحت ما بقي من عناصر قوتهم. يهاجرون ويتقلص حضورهم في الخريطة والدولة والقرار. فقدوا قدرتهم على صناعة الاستقلال. وفقدوا ريادتهم في إبرام تسوية كبرى مع شركائهم تعيد اختراع مبررات الكيان.
يشعر الموارنة باليُتم. للشيعة حزب فولاذي أعاد صياغة الطائفة وموقعها وأحكَمَ ربط مصيرهم بقوة إقليمية صاعدة. للسنّة زعامة قوية، وإن أعوزها السلاح، تمتلك ترسانة علاقات عربية ودولية تمنع شطب دورهم. الموارنة أيتام. الغرب لم يعد مسيحياً وصلوات الفاتيكان لا تكفي.
إنه الأسبوع الأخير من ولاية الرئيس ميشال سليمان. والاستحقاق الرئاسي وليمة مسمومة للموارنة والجمهورية معاً. تقلُّص صلاحيات الرئيس لم يُخفِض شراهة السياسيين الموارنة. أنا أو لا أحد. أنا أو نحرق البلد.
أكتبُ عن الزعماء الموارنة ولا أنكر صفتهم التمثيلية. لكنني أخاف من الجروح التي يحملونها في أرواحهم وذاكرتهم بفعل حروبهم مع الآخرين ومن منجم الأحقاد بفعل الحروب بينهم. هذا وافد من الحرب والسجن ومؤتمنٌ على إرث ستة آلاف شهيد. وذاك والد شهيد وشقيق شهيد. وثالث أنجبت حرباه كثيراً من الشهداء. ورابع ابن شهيد ومأساة عائلة كاملة.
أنهكَت لعنة القصر الموارنة. سجّل بشير الجميل سابقة خطرة مفادها ان انتزاع زعامة «الإقليم» المسيحي تضمن الاستيلاء على قصر الرئاسة. وقَعَ ميشال عون وسمير جعجع في إغراء لعبة بشير فسَلَك الموارنة طريق النكبة.
لم يعد لبنان قادراً على احتمال المجازفات. الفراغ سيكون موجعاً للبلاد وقاتلاً للموارنة. الأيام تنفد وعلى الزعماء الموارنة التفكير في حُكم التاريخ. لم يعد لدى الموارنة دمٌ يوزّعونه على حروب زعمائهم. سقوط التعايش والحدود يجعل لبنان بلا معنى ويضع الموارنة على طريق النكبة.
أَدعو عون وجعجع الى خفض الأضرار. إلى التفكير في رجل ثالث يدعمانه على قاعدة برنامج واقعي لإبقاء حلم الدولة حيّاً مع السعي إلى إحياء الشراكة الوطنية. وإذا أصرّ الجنرال على اغتنام «الفرصة الأخيرة» أدعوهما الى الإشفاق على الموارنة والتفكير في قصة جلال طالباني ومسعود بارزاني وفيها قدرٌ من الشبه مع قصتهما. رجل يذهب إلى قصر الرئاسة ويسلّم للآخر بالموقع الأول في الإقليم.
يتغيّر العالم ولا يتغيّر الموارنة. هذه قصتهم ونكبتهم. أكتبُ عنهم إخلاصاً لوهم قديم بأنهم ضرورة لبنانية وعربية. أكتبُ عن زعمائهم لأنهم في الغالب ظالمون ومظلومون ولأنني أعرفهم من الوريد إلى الوريد.