فضيحة «مواقف» «المجتمع الدولي»، والدول الغربية، لا يوازيها سوى موقف الصحافة الغربية، التي يبدو انها إما تماهت بانحياز حكوماتها إلى العدوان الصهيوني على غزة، أو تضامنت مع حكومة نتنياهو الارهابية على امتداد حصارها «غزة» (8 سنوات) وسياستها الاستيطانية، وافشال كل حل لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة. وعندما رحت أتابع «ملفات» الصحافة الأوروبية حول «هولوكست» الصهاينة في حق الفلسطينيين وخصوصاً الاعلام الفرنسي المكتوب والمرئي، هالني هذا الانحطاط المخزي في مواقف منابر اعلامية «مرموقة» معروفة في المجلات والجرائد الفرنسية، من «لونويل اوبسراتور» (باستثناء ما يكتبها جان دانييل) إلى «الاكسبرس» و»لوبوان» وبطريقة أقل «لوفيغارو» وبطريقة احط «ليبراسيون»… وصولاً إلى «لوموند»! ومن لا يعرف أن هذه المنشورات تتباهى بالنضال من أجل حرية الشعوب في تقرير مصيرها والدفاع عن حقوق الانسان، والديموقراطية والتعددية والموضوعية ومساندة المقهورين في أفريقيا وآسيا وصولاً إلى روسيا وايران والصين.. نكسة ولا كالنكسات تسجلها هذه الصحافة في مقاربتها العدوان الصهيوني على غزة: هولوكوست عبري نازي مفتوح منذ 1967 على الشعب الفلسطيني! شيء مخيف!
والأخطر من كل ذلك، ان هذه الصحافة التي تثير الاشتمئزاز والتي تدَّعي احترام قرائها، وتعدديتهم وانتماءاتهم تتخذ مواقف من قبل العاملين فيها، ومن كُتّابها ومثقفيها، و»فلاسفتها» ومعلقيها و»نَوابغها» و»نوافلها» هي نقيض ما يحدث في الشوارع الغربية، من تظاهرات واعتصامات تتضامن مع الشعب الفلسطيني وتدين الهجمة الصهيونية، وبربريتها وجنونها وتطرفها وأصوليتها. اذن الصحافة والدول الغربية في جهة وشعوبها في جهة أخرى.
ففي لندن، تظاهر الألوف أمام مقر رئيس الحكومة دايفيد كاميرون، بيافطات تهتف «حرّروا فلسطين» وفي بروكسيل خرجت ألوف تندد بالوضع المأسوي الذي يعاني أهل غزة ازاء الحصار، والعدوان الاسرائيلي؛ وفي النمسا واسبانيا وتشيلي والمانيا والولايات المتحدة… (اضافة إلى العالم العربي) هناك ما يشبه «الانتفاضة» الشعبية على الكيان الصهيوني. حتى في اينيون وليون وبوردو ومارسيليا وليل وفي نحو 60 مدينة فرنسية، خرج الناس يستنكرون مواقف حكومتهم والحكومات الغربية على تواطئها مع إجرام اسرائيل!
فالصحافة في مكان والناس في أمكنة أخرى على النقيض تماماً. وعندما قرأت بعض التحقيقات الواردة في هذه المنابر الصحافية والمليئة بالترهات والأكاذيب كان لا بد ان يشعر كل من ما زال يتمتع بحد أدنى من المشاعر الانسانية ان يشمئز ويتقيأ على تلك المقالات التي كان كل همها تحويل القضية من عدوان على الفلسطينيين إلى التركيز على معاداة السامية والارهاب الفلسطيني. أكثر: حاولت هذه الصحافة أن تشوه معنى التظاهرات التي نهضت في فرنسا مثلاً، مصورة المتظاهرين بأنهم حُفَنٌ من الخارجين على القانون، والمُخربين والرعاع والارهابيين ووضعت بعض الصدامات مع الشرطة، وكأنها دفاع من هذه الأخيرة عن الأمن والممتلكات ازاء ما اعتبرته تخريباً وتدميراً. (في مارسيليا مثلاً)… ورأت في هؤلاء الشبان المحتجين على وحشية اسرائيل، مجرد لصوص سرقوا بعض المحال، ونهبوا المحتويات واحرقوا السيارات وسرقوا المجوهرات ومطاعم البيتزا واستولوا على 100 أو 200 يورو(!) من دون أن ينسوا التركيز على تدمير الصيدليات التي يمتلكها يهود… (تحقيق مجلة لوبوان). هذا التشويه الممنهج المعلن للوجه «التخريبي» للشبان المتظاهرين اغفل بشكل أساسي ومبرمج الجرائم التي ترتكبها حكومة نتنياهو وجيش العدوان الاسرائيلي وكذلك تجاهلوا الأسباب الحقيقية التي جعلت هؤلاء الشبان يعبرون عن غضبهم ازاء ما يتعرض له الفلسطينيون منذ 1967 وحتى اليوم، من اغتصاب أراضيهم وممتلكاتهم وحصارهم وتجويعهم والاغتيالات التي نفذتها المخابرات الاسرائيلية! مارست هذه الصحافة «الفرنسية» مهنتها بخيانة رسالتها الانسانية! كأنها «جزء» من المعركة ضد الفلسطينيين. جزء من اللوبي الصهيوني، المنتشر كالوباء في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية… جزء من خراب هذا العالم الغربي وموت ضميره وانسانيته وقيمه. عندهم لازمة واحدة «أبدية»: «معاداة السامية« أو «عودة معاداة السامية» لحرف الأنظار عما يجري في غزة! هذه اللازمة التي هي جزء من الارهاب الفكري الاسرائيلي على كل من ينتقد ممارسات حكوماتهم المتعاقبة! وما ارتكبت هذه الصحافة من تشويه في نقل التظاهرات الشعبية في أوروبا وما يجري على أرض المعارك في فلسطين، برره بعض الذين حاورتهم من المثقفين، والخبراء والكتاب. نحاول أن نورد بعض ما جاء في مقارباتهم من دون اغفال بعض الأصوات العقلانية والموضوعية.
يقول مارك هيكر (نول أوبسراتور) مستعرضاً مراحل الحركة الفلسطينية في فرنسا وأوروبا، «قامت الحركة الفلسطينية على أربعة أسس في الستينات: 1) المناضلون العرب العلمانيون الذين وجدوا قضية جديدة لهم بعد استقلال الجزائر، 2) كاثوليكيو اليسار الذين تجمعوا حول جريدة «شهادة مسيحية» «Témoignage Chrétien« 3) جزء من شعبية ديغول الذي حَمّل اسرائيل مسؤولية اندلاع حرب الأيام الستة، 4) واليسار المتطرف الذي يدين الصهيونية كأداة للامبريالية». ويضيف الكاتب «اما الظهور الإسلامي فقد برز عام 1990 من خلال مجموعات فلسطينية تمركزت حول «القضية الفلسطينية» ويشير إلى ان الذين يساندون اليوم القضية الفلسطينية متنوعون حتى التناقض بأهدافهم. بعضهم يدعم حل الدولتين ومرجعية قرارات الأمم المتحدة، وآخرون أكثر راديكالية يرفضون شرعية اسرائيل ويطالبون بتحرير فلسطين كلها، مما يعني «تدمير اسرائيل» وآخرون يقارنون بين وضع الفلسطينيين ووضع الأقليات المتطورة في فرنسا».
هذا الكاتب «أرّخ» للحركة الفلسطينية من خلال تنويعات نشوئها وتطورها.
أما جورج بن سوسان فجاء من باب آخر: المنطق التبريري المتواطئ عندما رأى ان ما ترتكب اسرائيل اليوم في غزة «ليس مجزرة» بل «مجرد عمل طبيعي يحدث في كل الأزمات المسلحة. لكنه حاول اختزال طبيعة المتظاهرين، وعزلهم عن المجتمع الفرنسي ككل بقوله «معظم المتظاهرين هم من أصول مغربية (!) ولا يربطهم أي رابط بيولوجي بفلسطين. عدنا إلى البيولوجيا! كأنها الرابط الوحيد بين الشعوب والقضايا والأمم. واستفحل في كلامه أكثر عندما اتحفنا بتحليله اللوذعي: «نستورد معاداة سامية من أصل مغربي سابق يعود إلى القرن التاسع عشر!» ما هذا التوغل العبقري. ولماذا لم يقل انه يعود إلى القرون الوسطى عندما طرد الاسبان المسلمين واليهود من اسبانيا، ولجأ هؤلاء الأخيرون إلى تونس والمغرب وليبيا والجزائر وصولاً إلى العراق… ولكي يستثمر «نظريته العبقرية» امتعنا بالقول ان القضية الفلسطينية «نبشت» هذه المعادة للسامية واستغلتها. لم يتحدث أخونا لا عن الهولوكوست ولا عن معاداة السامية عند الأوروبيين منذ مئات السنين ولا عن الجدل القائم حول من قتل المسيح وما خلف ذلك من مشاعر سلبية لدى مسيحيي أوروبا ضد اليهود! ويُمعن في التركيز على «مغاربية» معاداة السامية في فرنسا فيقول لا فضّ فوهه ولا مناخيره «أن اسْلَمة بعض الشباب المغاربة (الاسلام السياسي) ساعدت على تأصيل معاداة السامية! نسي الأخ مواقف لوبان الأب من النازية واليهود! ونسي في القرن العشرين مساعدة بعض الفرنسيين النازيين بتسليمهم يهود فرنسا.. ونسي مواقف اليسار الفرنسي وديغول …. فمسؤولية «معاداة السامية» لا تقع سوى على عاتق المغاربة!
هذا كُتب في أهم مجلة فرنسية اسمها «لونويل اوبسراتور» ومن هذه المداخلة برز صوت جورج بن سوسان التحريضي: «الطائفة اليهودية تعد سبعة بالمائة من مجموع سكان فرنسا! ويقصد ان يهود فرنسا باتوا أقلية ازاء تزايد عدد المسلمين والعرب والمغاربة، وان مصيرهم صار مجهولاً ومهدداً ليلتقي هنا دعاوى شارون ونتنياهو وليبرمان بدعوة «يهود فرنسا إلى الهجرة إلى اسرائيل «لأن فرنسا لم تعد مكاناً آمناً لهم!» وتخويف اليهود هنا يعني تعميق مشاعر معاداة السامية» وعودة نغمة «الشعب الضحية» وعلى هذا الأساس ربما يرى الكاتب، ان على فرنسا الرسمية والشعبية «حماية اليهود» من الخطر الارهابي والإسلامي… والمغاربي وحتى العربي عموماً. ويمكن ذكر عدد من الذين أدلو بدلائهم في اغفال جرائم اسرائيل والتركيز على الارهاب ومعاداة السامية كايريك باكمان وعنوان مقاله «حماس تقع في الفخ» وايلي برنافي «محرك كراهية الصراع المجتمعي والطائفي».. الخ. من دون أن ننسى مواقف «فيلسوف الميديا» برنار هنري ليفي الأسوأ والأكثر انحيازاً إلى اللوبي الصهيوني، والأكثر تطرفاً وغباء!
والغريب أن هذه الصحافة بالذات طالبت المجتمع الدولي وحكومات بلدانها بفرض عقوبات على النظام الروسي عقاباً على كل تدخله في أوكرانيا، وتنافست في ابداء استنكارها وأدانتها لإسقاط حلفاء روسيا في القرم طائرة ركاب مدنية. هنا تَبارٍ من أجل حقوق الانسان لأن «القضية» لا تمس «اسرائيل» وفي غزة يدينون المدافعين عن أرضهم، والمطالبين بتنفيذ بنود الأمم المتحدة… ويشهرون أقلامهم الصدئة على الضحايا فماذا لو كانت اسرائيل اسقطت طائرة مدنية! هل كنا وجدنا عند هؤلاء «الحضاريين» أبناء الثورة الفرنسية هذه الحمية المفرطة أم ربما اتخذوا مواقف لطمس الفاعلين، او لتبرير الجريمة. وما الفارق بين «اغتصاب الروس» جزءاً من أراضي أوكرانيا وبين اغتصاب فلسطين! هناك استنكار وعودة إلى الضمير المهني والانساني وهنا كل شيء مباح لأن اسرائيل هي الفاعل والمرتكب!
لكن، لو عدنا إلى حجم الذين باتوا يدينون مواقف اسرائيل وسياساتها الاستيطانية التوسعية، وجرائمها لوجدنا أن معزوفة «معاداة السامية» باتت جزءاً من العالم القديم الذي استُنفد. لم تعد ذلك «الحجر الفلسفي السحري» الذي يحول المجرمين ابطالاً، والضحايا مجرمين! استنفدت زجلية «الهولوكست» وذنوب الغرب الذي اقترفها ليدفع العرب والفلسطينيون ثمنها! وما شأن العرب والهولوكست! أوروبا هي التي صنعت حربين وعشرات الهولوكست لتدور الدائرة على فلسطين كثمن وهدية ومكافأة واعتذار لاسرائيل عن هولوكستها! عملة قديمة عادت لا تصرف لا في البنوك ولا في المحال، ولا في عقول «المفكرين».. ونظن ان معظم هؤلاء الذين «دعموا» العدوان الاسرائيلي باختزاله الشعب الفلسطيني المقهور ««بحماس» الارهابية! فليس هناك في فلسطين سوى حماس! وعلى المثقفين ان يطالبوا العالم بازالتها. وها هو رئيس اركان جيش العدوان الصهيوني يصرح» ان اسرائيل تدافع عن العالم الحر بحربها على الارهاب الفلسطيني» أكثر: رئيس الاركان نفسه سبق ان صرّح ان ايران النووية ليست هي العدو الذي يهدد اسرائيل بل الفلسطينيون!» شيء خرافي! وهذا ما بدأ صحافيو الغرب وفرنسا يرددونه كبغبغانات الاقفاص. مثقفون ليبراليون، يساريون، قوميون، يمينيون، باتوا أصداء للاعلام الصهيوني وكتبة عنده! أف! حتى مارين لوبان التي طلعت من حاضنة والدها المعروف بمعاداة السامية وتأييده النازية. ها هي تختلف مع «والدها» لأنها تقربت من اللوبي الصهيوني، وحولت مسار «نضالها» ضد المسلمين والمهاجرين! ولقاء ذلك ها هي بعض الصحافة تحيي مواقفها «التصحيحية» ! نقول ذلك، محاولين طرح اسئلة حول الانهيار الفكري والفلسفي والسياسي في أوروبا! عولمة الانحطاط. عولمة الكراهية للقضايا المحقة. عولمة التفاهات. عولمة الاكاذيب. عولمة كل ما يعادي القيم التاريخية التي قامت عليها الثورة الأميركية والفرنسية والأوروبية (1853). لكن كل هذا لا يعني سوى تصدع مريع لبنى تلك الدول التي بدأت تنتقد السيطرة على قراراتها حتى الاقتصادية. وعلى الاحزاب. سقوط صدقية هذه الدول والأحزاب وصحافتها واعلامها في عيون الناس. أو ليس هذا ما يفسر ان الدول وأقلامها ومأجوريها الاعلاميين المؤيدين للعدوان الاسرائيلي في واد، والناس والمجموعات الشعبية الأوروبية في واد آخر، أو ليس هذا ما يفسر قرارات المجتمع الدولي المرتهن لأميركا وأوروبا في واد، والناس والمجموعات الشعبية والقضايا المحقة في واد آخر؟
غزة، على الرغم من الشدة التي تحاصرها وبربرية العدوان وتواطؤ المؤسسات الدولية، لن تكون وحدها بعد اليوم! الشعب العربي معها (دعوا حكوماته التافهة على حدة) وشعوب العالم كذلك الشعوب التي لم تعد تخدعها كتابات المأجورين ولا شعارات «معاداة السامية» ولا «الهولوكست» والتي «صُنعت» اصلاً لتبرير جرائم اسرائيل واغتصاب فلسطين!
بول شاوول