IMLebanon

نهاية العرب؟!

تردّدت كثيرا قبل اختيار هذا العنوان الدرامي، ربما لأنني أرجو أن أكون مخطئا، أو لأنني لا أودّ أن أبدو وكأنني أقلّد فرانسيس فوكوياما عندما وضع كتابه عن «نهاية التاريخ»… وأجرى فيما بعد مراجعات جوهريّة على مقولته.

كائنا ما كان السبب، أزعم أننا اليوم ندفن الهويّة العربيّة، سواء بعد وفاتها… أو نئدها حيّة قبل أن تموت.

هذا ما يحدث فعلا عندما تسقط الموصل «أم الربيعين»، إحدى حواضر العروبة والإسلام، أمام غزو تنظيم مسلح لا علاقة له لا بالعروبة ولا بالإسلام، وتتهدّد دير الزور والرّمادي والفلوجة والحسكة، بعد سقوط الرقّة – رقّة هارون الرشيد – قبل أشهر.

وهذا ما يحدث عندما يدمّر جيش عربي اللسان والشعارات، كان يزعم أنه «حامي الديار»، مدعوما بميليشيات طائفية مذهبية إمرتها خارج العالم العربي، مدنا من أعرق مدن الحضارة البشرية مثل حلب وحمص.

وهذا ما يحدث عندما يغدو القرار السياسي الفعلي في كل من العراق وسوريا ولبنان في أيدي غير العرب… وعندما ينهار اليمن بين «مطرقة» الحوثيين الإيرانية الزاحفة على صنعاء و«سندان» زمَر «القاعدة» المنتشرة في مناطق الجنوب بجانب وجود لإيران.

وهذا ما يحدث عندما تغدو فلسطين نِسيا مَنسيا و«أشلاء أرض» يقضمها غول الاستيطان الاحتلالي بانتظام… ويمزّق وحدتها الوطنية الصراع الداخلي المغذّى خارجيا، وتغيب «نكبتها» عن أولويّات عالم عربي ثقلت عليه همومه، وتكاثرت عليه «نكبات» كل مكوّن من مكوّناته. بل عندما تتراجع محوَرية فلسطين لأن بعض الفلسطينيين توهّموا ذات يوم أن لا معاناة إنسانية أخرى عند إخوتهم تستحق التعاطف معها، بل لا بأس من مسايرة طغاة العرب إذا كانت شعاراتهم الكاذبة تدّعي «التحرير» و«النضال» و«الممانعة» و«المقاومة».

وهذا ما يحدث عندما ينحرف بعض أدعياء الدين الحنيف، فيكفّرون كل من يخالفهم ذات اليمين وذات اليسار، فيشوّهون جوهره، ويسيئون إلى مكانته، ويحطّون من قدره، ويستعدُون عليه وعلى المسلمين القاصي والداني من قوى العالم الفاعلة… ومن ثم يتحوّلون إلى «حاضنة» لأسوأ أشكال التطرّف الحَرَكي الدموي المجنون، فيخدمون مشاريع المتآمرين على شعوبنا وأوطاننا وهويتنا ومصائرنا.

كالعادة، كثيرون يطرحون في مثل هذه الأيام المظلمة «نظرية المؤامرة»، إلا أنني أومن بضرورة إجادة قراءة التاريخ أولا. فنحن، كعرب، ما زلنا نجهل قراءة التاريخ، وبالتالي، لا غرابة والحال كهذه ألا نتّعظ منه ونستخلص الدروس الواجب استخلاصها.

لقد كان طبيعيا أن يُنتِج حكم الطغيان ومصادرة الحرّيّات على مرّ العقود سخطا شعبيا تطوّر لاحقا إلى أحقاد تيسّر لها رُعاة في الخارج استغلوها لترويج مصالحهم. كذلك، كان من الطبيعي في غياب الحياة الحزبية السليمة في دول ادّعت أنها جمهوريات ثوريّة طالما تشدّقت بالديمقراطية الجماهيرية أن يتكوّن نفور إزاء كل ما يرمز لمقولات أنظمتها وممارساتها. وهنا أقول إنه لا أحد أساء إلى فكرة الوحدة العربية مثل أولئك الذين تاجروا بها، ولا أحد أساء إلى الاشتراكية كالذين جمعوا، ومحاسيبهم وأزلامهم و«شبّيحتهم»، ثروات نهبوها من ثمرة كدّ الشعب وخيرات أراضيه، ولا أحد أساء إلى حلم «تحرير» فلسطين وغيرها من الأراضي المحتلة بقدر إساءة من ساوم على كل شيء… وفي النهاية جعل أرضه مستعمرات للغير.

سقوط خيار العروبة بعد سقوط حالة الصراع الطبقي، وفي ظل انعدام حرية الرأي والتجمّع والتنظيم ما حال دون نشوء مؤسّسات حزبية ونقابية جدّيّة، أسهم في الهروب نحو الملاذ الديني والمذهبي. وهنا، جاء دور القوى غير المَرئية التي استثمرت هذه الظاهرة، وتفنّنت في تظهيرها وتدويرها تحت تسميات مختلفة، ودرجات متفاوتة من المزايدة في التطرّف.

نعم، وجود حواضن سياسية آيديولوجية وثيولوجية أسهم إسهاما كبيرا في ظهور التنظيمات الجهادية التكفيرية التي شبّت الآن عن الطَوق وتعدّدت شراذمها و«مرجعياتها»، غير أن التعاطف الشخصي أو الجماعي عند أفراد، أو حتى عند بعض الأجهزة الحكومية في هذه الدولة أو تلك، لا يكفي لتمكين هذه التنظيمات من فعل ما تفعله اليوم في سوريا والعراق، كي لا نشير إلى اليمن، وأيضا إلى شمال أفريقيا. ذلك لأن عمليات هذه التنظيمات التي تجتاح راهنا المدن والأرياف تحتاج إلى بنى تحتية لوجيستية ضخمة أكبر بكثير مِن تبرّع يأتي من هنا ودعم يَرد من هناك. ثم يجب التذكير بأن ما تدفعه هذه التنظيمات من أجور للمقاتلين الذين يلتحقون بصفوفها يفوق بمراحل ما كان ينفق من مبالغ علنا على تشكيلات عسكرية محترفة كـ«الجيش السوري الحر»، كما أفادت التقارير الواردة من شمال سوريا.

أمرٌ آخر يجب تناوله بجدّيّة هو «مسرح عمليات» هذه التنظيمات. فلقد أمضى تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) السنوات الأخيرة مُحاربا «الجيش السوري الحرّ» وباقي فصائل الثائرين على النظام السوري، ولم يستهدف أبدا جيش النظام. وفي المقابل، بينما لم يتردّد نظام دمشق في قصف مدن سوريا وقراها بمختلف أنواع الأسلحة الفتاكة، ومنها ما هو محظور دوليا، فإنه لم يستهدف مناطق تجمّعات أو مراكز إمرة «داعش» ولو مرّة واحدة.

وثمّة ناحية ثالثة لا مَهرب منها، هي أن «داعش» وغيرها من الفصائل المتطرّفة التي ترفع شعارات مشابهة، غدَت عبئا على القضايا التي تزعم أنها تناضل من أجلها. ولقد رأينا بأم العين كيف استخدمها الغرب، ومن خلفه المجتمع الدولي، ذريعة لتبرير خيانته ثورة الشعب السوري السِّلمية وخذلانها. ولا أحسب أنه إذا وُجِد عاقل في قيادات هذه التنظيمات تفوته هذه الحقيقة، ولكن رغم ذلك، تستمر التجاوزات والفظائع، وتستباح الأرواح والأرزاق، ويعصف التهجير المجرم بما كانت مدنا وبلدات عامرة.

اليوم التهجير الحاصل في القوس الجنوبي لمنطقة «الهلال الخصيب» ما عاد تهجيرا عَرَضيا… بل ينمّ عن وجود مؤامرة تتهدّد الوجود السنّي… لا تقل كارثية عن تطهير الأندلس من الوجودين العربي والإسلامي، أو اقتلاع الشعب الفلسطيني وتشريده.

واضحة جدا الغاية من تهجير سكان حمص وحلب والرقّة ودير الزّور والموصل والرمادي والفلوجة وسامراء… أيضا واضحة جدا هويّات أصحاب البصمات. المسألة ليست مصادفة ولا هي حالة عبثية، بل ثمّة استراتيجية – أحسب أنها معدّة على أعلى المستويات في كبريات العواصم العالمية – لإعادة رسم خريطة منطقة الشرق الأدنى. والقضيّة أكبر بكثير من متطوّعين متحمّسين، أو مغسولي الدماغ، دفعتهم الحميّة أو استنفرهم الغضب ضد العربدة الإيرانية في المنطقة، أو ضاقوا ذرعا بالعجز العربي الطويل عن تحرير القدس.

هذا يفرض على العقلاء في عالمنا العربي أن يتنبهوا إلى الحقائق ولا تأخذهم الأوهام إلى المتاهات. فخيانة الشعب السوري حصلت بشبه إجماع دولي، وتدمير نسيج العراق أيضا تحقق عبر مطابخ السياسة الدولية، والقبول بـ«هلال خصيب» تمسك به إيران… مطلوب دوليا.