لا يزال ديكور المطعم في وسط بيروت هو نفسه منذ ثلاث سنوات. السياسيون جزء من الديكور. وللكراسي هنا، ككراسي مجلس النواب، أسماء ثابتة. تتداخل أصوات مضغهم الطعام مع «علكهم» بيانات كتلهم السياسية، فيما اهتمامات ناخبيهم في أسفل الأولويات. هؤلاء لا يؤمنون بالمثل الصيني: علّمني الصيد ولا تعطني سمكة. هم لا يعلّمون ولا يعطون!
كيف يعقل أن يذهب الجيش السوري واستخباراته، ويبقى خالد ضاهر ومحمد كبارة وهادي حبيش ورياض رحال وجمال الجراح ومحمد قباني وبطرس حرب ونايلة معوض على الأراضي اللبنانية؟ ألا يتعارض هذا مع السيادة الوطنية؟ لماذا لا يزال فؤاد السنيورة موجوداً في حياتنا السياسية؟ كيف يذهب حزب التنظيم ويبقى جورج عدوان؟
كيف ينتخب أنطوان زهرا نائباً بعد أكثر من ربع قرن على تفكيك حاجز البربارة؟ كيف ينتهي زمن «النبلاء» في أوروبا ويوزّر «الماركيز» نبيل دو فريج هنا؟ وهل هو مجلس وزراء أم ميدان لسباق الخيل؟ أين تذهب بنفسك؟ ذهب ميشال سليمان وبقي زياد بارود وسمير مقبل وأليس شبطيني. تخيّل نفسك مع سمير مقبل في مصعد أو مكتب أو مطعم ولا مفر من أن تسمعه ويسمعك. مقبل ضليع في الدفاع، ووزير السياحة السابق نقولا فتوش علّامة في الشؤون الدستورية.
يمكن تخيل كيف يمكن أن تكون الأوضاع لو أن كل نائب التزم تنمية بلدته بدل علك البيانات السياسية
كيف تقنع أياً من هؤلاء النواب بأن تزفيت وزارة الأشغال العامة طريقاً ليس إنجازاً، وأنه لن يدخل التاريخ لأن الحكومة مدّت، خلال ولايته النيابية التي لا تبدو لها نهاية، شبكات للصرف الصحي في بعض القرى. تسأل نواب عاليه وبعبدا والمتن وكسروان وجبيل والبترون والكورة عن إنجازاتهم، فيحدثونك عن شبكات «المجارير». اسألوا النواب نضال طعمة وأحمد فتفت وعباس هاشم وعصام صوايا وإدغار معلوف وسليم سلهب وارتور نظريان وسليم كرم واسطفان الدويهي وأغوب بقرادونيان وجيلبرت زوين وفادي الاعور ويوسف خليل ونعمة الله أبي نصر وقاسم هاشم وأحمد كرامي ووليد سكرية وكامل الرفاعي وطلال أرسلان وعبد المجيد صالح وبلال فرحات وعلي خريس ونوار الساحلي وهاني قبيسي وسامر سعاده وفادي الهبر وجورج عدوان وجوزف معلوف وشانت جنجنيان وطوني أبو خاطر وإيلي كيروز وإيلي عون وهنري حلو ونقولا غصن وروبير فاضل وسيرج طورسركيسيان وعاطف مجدلاني وسيبوح قالبكيان وباسم الشاب ونبيل دي فريج وجان أوغاسبيان وأنطوان سعد وكاظم الخير وعماد الحوت وخالد زهرمان وزياد القادري وأمين وهبي وبدر ونوس وخضر حبيب. اسألوا أياً منهم عن إنجاز واحد حققه في العامين الماضيين. عن مشروع بيئي أو زراعي أو تجاري أو ثقافي أو تعليمي أو رياضي أو سياحي أو صناعي أو حرفي يمكن حفيده الاعتزاز، بعد خمسين عاماً، بأن لجده الفضل في إنجازه. اسأل نعمة الله أبي نصر أن يحدثك عن شيء غير قانون التجنيس وخذ صمتاً عميقاً!
كان هناك ميشال المر واحد في المتن، فبات هناك اليوم أربعة «ميشالات» المر. ما يبقي رؤساء مجالس البلدية في المتن مع «أبو الياس» أنه أقل تطلباً وتسلطاً من النواب الآخرين وأكثر احتراماً لنفسه ولهم. يتصرف إيلي ماروني مع نفسه، ويتصرف الآخرون معه، باعتباه ممثلاً للشعب في المجلس النيابي. لا يريد شانت جنجنيان أن يعيش مراهقته كاملة بدل كدر النيابة وجدّيتها؟ عبثاً تطلب من نائب أو وزير تعريفك الى شخصية ما تستحق الكتابة عنها، أو تسأله عن فضيحة تخص خصمه. يلفّ ويدور ويعود إلى «ذاته الإلهية» أو الى «التمريك» على زميل له في الكتلة نفسها. أين ملفات فساد ميشال المر التي وعد التيار الوطني الحر ناخبيه بكشفها؟ ولماذا لا يكشف النائب أنطوان زهرا بالأرقام والمستندات عن الأراضي التي تملّكها الوزير جبران باسيل بدل أن يواصل مهزلة الاتهامات الإعلامية؟ لا شيء البتة سوى حفلات فطور وغداء وعشاء «يلتّون» فيها الكلام ويعجنونه، لينتهي أحدهم الى الإقرار: «ما طالع بإيدنا شي».
تهرب إلى إحدى بلدات الجبل: بزبدين. أحد الطرق الى البلدة يمرّ بالشبانية وفالوغا وحمانا وأسماء طنانة أخرى، فيما يمر طريق آخر بضهور الشوير وبولونيا والمتين وأسماء لها وزنها السياحيّ المفترض. ساحات هذه القرى، كغالبية مطاعمها وفنادقها، شبه خاوية إلا من بعض السياح الخليجيين. قبيل الوصول الى بزبدين بساتين مخصصة للتخييم. في القرية، لا تكاد تخلو شرفة من رائحة المشاوي ودخانها، فيما أطفال يملأون الأزقة. يوجد هنا من يربي النحل ويعصر الدبس ويزرع التفاح ويربي البط. مرمح خيل وناد للرماية وآخر للأنشطة الكشفية ومأوى للعجزة ومطاعم يستحيل أن تجد كرسياً فيها من دون حجز مسبق. بحماسة، يخبر رئيس مجلسها البلدي بيار بعقليني عن البئر التي تروي ست قرى وجدران الدعم التي رمّمها والطرقات التي وسّعها والملعب الرياضي الذي أعدّت البلدية خرائطه ومشروع إلزام المنازل بسقف أسطحها بالقرميد ومنع المجلس البلدي الأهالي من بناء أكثر من طابقين؛ أرضي وأول، وعن التسهيلات للشباب الراغبين في استحداث مشاريع سياحية، وعن اتصالات بمصارف لإقناعها بالاستثمار في فندق أو مشروع سياحي أكبر في ظل عجز المشاريع الحالية عن استيعاب أعداد الزائرين الكبيرة.
حماسة بعقليني يقابلها توتّر لا يمكنك إخفاءه لدى اكتشاف أن الأمر لا يحتاج إلى وزير سياحة أو نائب. يكفي أن يكون هناك رئيس بلدية، أو شاب ناشط يتمتع ببعض العلاقات في الوزارات، ليحدث تغييراً صغيراً. عندما يصل الحديث إلى كلفة مثل هذه المشاريع، والتي تتراوح بين عشرة آلاف ومئة ألف دولار، تكتشف أن السياحة الجبلية التي «علّ» الوزير السابق فادي عبود اللبنانيين بها من دون أن يحقق شيئاً منها بعيداً عن فقرا وعيون السيمان، لا تحتاج إلى ميزانيات ضخمة. قد تكفي قروض وزارة الشؤون الاجتماعية لتغطية نفقاتها.
التوتر يزداد بمجرد تخيّل ما كان يمكن أن تكون الأوضاع عليه في كل أعالي بعبدا فيما لو قسّم نواب القضاء القرى بعضهم على بعض، والتزم كل منهم استحداث، مع من يرغب من أبناء البلدة، بضعة مشاريع اقتصادية تنعش هذه البلدات وتدفع أهالي قرى أخرى إلى التفكير في زيارتها. ماذا لو بحث النائب سيمون أبي رميا عن مشاريع صغيرة تنعش بلدته الجبيلية على مدار العام، بدل أن «يهيّنها على نفسه» بمهرجان صيفي ينعشها أربعة أو خمسة أيام كل عام؟ ماذا لو يستعيض النائب إيلي كيروز عن تنسّكه بتحقيق خدمة لناخبيه غير الصلاة لأجلهم، وعندها كان في وسعه إنعاش ثلاث أو أربع قرى في بشري خلال سنوات نيابته العشر؟ ماذا لو يعكّر أحدهم صفو النائب عصام صوايا في مقر إقامته الأميركي بمشروع يشجع من يزور جزين وشلالها على العودة إليها مجدداً؟ ماذا لو ينبّه أحدهم كل رجال الأعمال الجدد إلى أن التبرع لبعض الكنائس وبعض الناخبين بمئة دولار سيجعلهم مجرد أرقام إضافية في دفاتر الناخبين، فيما يمكنهم البحث عن أفكار جديدة تترك أثرها الإيجابي عند الناخبين؟ اسألوا أحمد فتفت عن مشاريعه المماثلة في منطقة الضنية مثلاً: كم شجرة تفاح وفّر لمزارعي منطقته طوال مسيرته النيابية مقارنة بعدد تصريحاته السياسية؟ كم مشروع سياحي أنشأ في تلك الأعالي الاستثنائية، وهو الحريص على الوجه السياحي للبنان؟
النواب على امتداد الأمة لا يبالون بإمكان توفير مدخول إضافي لثلاث أسر هنا من تربية النحل، وثلاث هناك من عصر الدبس أو الخل أو صناعة الصابون أو إحدى الصناعات الحرفية. هم هنا للتنظير السياسي.
تحويل بزبدين إلى قرية سياحية مجرد تفصيل هامشي. إلا أن مقارنة نهايات الأسبوع فيها، أو في إهدن، بما هي عليه في التلال الممتدة من القموعة إلى الضنية فبشري وتنورين والعاقورة وصولاً الى الهرمل تخنق. كيف يمكن النواب مضغ الأفكار نفسها من دون التفكير في ما يمكن أن يفيد ناخبيهم؟ وكيف يمكن هؤلاء الناخبين مواصلة «علك» الانتقادات نفسها، قبل أن يعودوا، كل أربعة أعوام، الى مضغ الأسماء نفسها؟